طوف وشوف

TT

يسمونها عين لندن. وهي أحدث المعالم السياحية التي تفخر بها المدينة. وما هي الا عجلة ضخمة مزودة بمقاعد يجلس عليها الراغبون في النظر الى خارطة المدينة من عل. وهانذا اعترف بأن فكرة ركوب العجلة الطوافة لم يغرني قط. لأن التفكير فيها يرهبني. فالخوف من الطواف يرجع الى الوراء سنوات طويلة حين سمح لي والدي مرة بركوب عجلة كبيرة طوافة في ملاهي القاهرة مع سائر الاطفال. بيد ان طفلة واحدة ركبت العجلة واصابها دوار قاس وخوف اقسى وانحدرت دموعها مدرارا الى ان توقفت الطوافة وهبطت منها واسرعت الى حضن ابيها باكية منتحبة. ومنذ ذلك التاريخ انتهت علاقتي بالطواف السريع في افاق المدن المزدحمة للنظر الى ما يجري على الارض. تذكرت ذلك الحادث وانا افكر اليوم في ما آلت اليه احوال الدنيا منذ طفولتي وحتي الان. وخيل الى انني وغيري من ابناء جيلي نطوف بسرعة الصاروخ مع كل ما طرأ من تغيرات نتأثر بها ولا نملك القدرة على ايقافها.

منذ ايام تعرضت لندن الى اعصار دمر 150بيتا على رؤوس اصحابها في اقل من 30 ثانية. وهو حادث بيئي ادهش الناس وارعبهم لأنه لم يسبق له مثيل. وبعدها صالت الاقلام وجالت بالرأي والتحليل وقيل ان التغيرات البيئية الناتجة عن تكنولوجيا الطيران تؤثر على التوازن البيئي وينتظر في المستقبل ان تزور الاعاصير الجزر البريطانية بانتظام.

والحقيقة هي ان تكنولوجيا الطيران هي تطور قلما نفكر في تأثيره على حياتنا وسلوكنا النفسي والعصبي. الطيران السريع بالطائرات السوبرسونيك ينقلنا من مناخ الى مناخ ومن بلد الى اخر يختلف توقيته الشمسي عن التوقيت الذي تركه المسافر عند نقطة السفر. وعلى مزاياه الكثيرة في توفير الوقت والمجهود يتطلب الانتقال من بلد الى بلد ومن مناخ الى مناخ ومن ساعة زمنية الى اخرى ومن ثقافة الى ثقافة تكيفا نفسيا وبيولوجيا سريعا يمثل ضغطا لا يستهان به على الانسان المطالب بالتكيف الفوري مع المتغيرات. ومن تكنولوجيا السفر انتقل الى تكنولوجيا الاتصال. اقصى سرعة للاتصال كانت في ما مضى هي التلغراف. كلمات قليلة تصل في اليوم نفسه ثم نستعد لاستقبال رد الفعل ربما في اليوم الذي يليه. ولكن بعد التلغراف جاء التلكس والفاكس ومن بعده الكمبيوتر والهاتف النقال وكلها وسائل تجعلك على اهبة الاستعداد للتواصل والاستجابة لشتى الانفعالات التي تدفع اجهزتك العصبية والنفسية للتكيف الفوري مع نوع الاتصال وتبعاته.

ثم جاءت ثورة المعلومات. اجلس في مقعدك المريح في بيتك، تأتيك صور القتل والدمار في بغداد بلا هوادة... بيوت تهدم فوق رؤوس الناس في غزة... جوعى ومشردون في دارفور... ناخبون يحتفلون بنجاح شافيز في فنزويلا .. فيلم وثائقي عن الفظائع التي ارتكبها بينوشيه في تشيلي تحت مظلة اميركية... كوفي انان يعتمد سياسة يا رايح كثر من الفضايح فيعبر عن سخط جاء متأخرا. كل صورة وكل تعليق وكل خبر يندفع بقوة السيل على جدران العقل والقلب بسرعة مذهلة تماما مثل العجلة في مدينة ملاه لا يشعر احد من مرتاديها بمشاعر الاخر لأن السرعة لا تسمح بالتوقف. بأمكانك طبعا ان تضغط على الزر فيتوقف سيل الصور والاصوات. وربما يطيب لك ان تختلي بنفسك مع احدث مقتنياتك: هاتف نقال لا يزيد حجمه عن كف اليد: هاتف يمكنك من سماع القرآن ومعرفة اخر الاخبار والرد على رسائل الانترنت والتقاط الصور ان شئت. هو بالفعل مركز معلومات متنقل.

من يجرؤ على رفض التكنولوجيا، خاصة في مجال العلاج والصحة؟ زمان كان مشرط الجراح يشق جدار البطن للبحث عن سبب العلة أو لاستئصال الزائدة او لاستخراج حصوة. اما الان فيدخل منظار صغير من جدار البطن مزود بمكبر يمكن الطبيب من اداء عمله على شاشة بدقة مذهلة. مجرد التفكير في تطور كهذا يشعرني بأن الطوافة تدور بسرعة مليون دورة في الدقيقة، فأتمنى ان اصيح بأعلى صوت: اوقفوا العجلة اريد ان اشعر بالارض تحت قدمي.