أمريكا وإيران: خطيئة التحالفات

TT

تظهر بعض مقدمات التخوين السياسي العربي، من خلال تشويه تحالفات وارتباطات سياسية لدول وحكومات مع غيرها، لأن الرأي العام العربي يتأثر بالمقولات الجاهزة، التي تعبر عن وعي سياسي محكوم بمفاهيم مجمدة، لا تتأثر بتغير الأحداث والتطورات الدولية والإقليمية. فتستجيب الذهنية الشعبية لمنظومة من القيم المغلوطة، في رؤية الخطيئة السياسية. الخلافات الحالية في المنطقة العربية جاءت نتيجة للوضع العراقي واللبناني، اللذين أوجدا معطيات وتحالفات جديدة، وخلقا سلسلة معقدة من المتناقضات والتعارض في المصالح والأطماع الإقليمية، بين دولة وأخرى، حيث فوجئ الكثيرون بكثافة التراشق بالتهم التخوينية، الذي شهد طفرة شتائمية مربكة للدبلوماسية العربية، خاصة مع تدهور الحالة اللبنانية ووصولها إلى مراحل حاسمة. في وسط هذا الجدل الخطابي والكتابات والحوارات الفضائية اللبنانية والعربية يعاد تكرار تهم تنطلق من مبدأ المقارنة والمفاضلة بين التحالف مع أمريكا أو إيران. ومنذ انكشاف ارتباط المسألة اللبنانية، ومعها العراقية بإيران، كحقيقة ملموسة يدركها الجميع، اضطر حزب الله، بعد أزمة الحرب الأخيرة، إلى إحداث نقلة نوعية في خطابه وتغيير لغته الدبلوماسية، فوصف حكومة السنيورة بأنها حكومة السفير الأمريكي جيفري فيلتمان.

فمن أجل الهروب من مواجه سيئة وخطيئة وطنية بالتحالف مع دولة خارجية في المنطقة والخضوع لأجندتها، جاء رمي تهمة التحالف مع أمريكا التي تدعم اسرائيل. هذه التهمة كافية لشيطنة وتشويه أي حكومة وحزب يتورط بها في الذهنية الشعبية العربية، الموروثة من بقايا مرحلة الخطاب ضد الإمبريالية، في عصر الحرب الباردة. حشر التفكير بين خطيئتين، أمريكا أو إيران، حجة فعالة تحقق هدفا مزدوجا للدفاع عن سيئة الارتباط بسوريا وإيران، وخدمة مصالحهما على حساب استقرار لبنان، وتشويه الخصوم عبر الكراهة الشعبية لأمريكا. يقول حسين حاج حسن‏،‏ النائب عن حزب الله في البرلمان اللبناني، حول اتهام الحزب بالتحالف مع سوريا وإيران من أجل تسهيل مصالحهما داخل لبنان‏،‏ إن التحالف مع إيران وسوريا تحالف مع دول لهم مصالح مشتركة معها بشكل طبيعي‏،‏ أما التحالف مع أمريكا فيعني التحالف مع إسرائيل‏،‏ وذلك لأنها تعمل من أجل مصالح إسرائيل بالمنطقة‏..! هذه الطريقة في تبرير أخطاء سياسية يعاد ممارستها عند أكثر من أزمة عربية، منذ خمسينات القرن الماضي، مرورا بحرب الخليج الأولى والثانية، ونجحت كثيرا في تعطيل وعي الشعوب حول تقييم أداء الأنظمة والأحزاب عبر توظيف المخزون الشعبي في كراهية أمريكا، وهي تستحق ذلك بسبب سياسة خارجية غير عادلة، ساءت أكثر في السنوات الأخيرة مع المحافظين الجدد.

هل يمكن القبول من ناحية المبدأ بالمقارنة بين أمريكا وإيران. خطورة هذا الأسلوب أنه يشغل التفكير الشعبي بمفاضلة أخلاقية بدائية بين أمريكا وإيران، من دون الوعي بتفاصيل الموضوع. إيران ليست بمكانة وأهمية الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة في الخريطة الدولية، حتى يمكن وضعها مقابل الولايات المتحدة، وليست حتى في مكانة أي دولة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. فبعيدا عن الرغبات والأمنيات الذاتية، تحتل أمريكا في عالم اليوم مركز القيادة، من خلال الاستفادة من قوتها العسكرية في تعزيز حضورها الدبلوماسي والاقتصادي المؤثر على الساحة الدولية. ففي المجال الاقتصادي استطاعت منذ الحرب العالمية الثانية السيطرة على مجمل الاقتصاد العالمي، وتمكنت من بناء نظام اقتصادي دولي يخدم مصالحها، من خلال المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية المعروفة. واستطاعت توظيف إمكانياتها المختلفة في إدارة الأزمات الدولية لخدمة مصالحها الإستراتيجية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، وعبر عدة أزمات دولية تعزز حضورها الفعال وقدرتها على التدخل في مناطق نائية وضبط بؤر توتر مختلفة، واحتكار لافت في إدارة ملفات دولية متنوعة، كملف الشرق الأوسط، وتستغل ثقلها داخل مجلس الأمن الدولي لمواجهة أعضاء دائمين لاستصدار قرارات تخدم سياساتها. عدم وجود البديل المنافس لهذه القوة القادر على كسر هيمنتها على شؤون العالم، أدى إلى انفرادها بالساحة الدولية وتضييق الخيارات السياسية للدول التي تتعارض معها.

لهذا أصبح حضورها السياسي في مشكلاتنا الإقليمية بالاتصال والتعاون معها، ضرورة سياسية على جميع دول المنطقة، تفرضها هذه الإمكانيات الضخمة التي تملكها في التأثير على القرار الدولي. هذا الاتصال ليس ناتجا عن حالة هيام وغرام بهذه القوة، طالما البدائل في إدارة الشأن الدولي والإقليمي معدومة. فمنذ مطلع التسعينات الماضية فشلت كل التوقعات ببروز قوى عالمية تنافس وتحد من الهيمنة الأمريكية.

لهذا لا أجد معنى لإطلاق التهم بالخيانة على دول وحكومات عربية وإسلامية تتعامل مع مثل هذه الدولة، التي يفوق تأثيرها تأثير الأمم المتحدة ذاتها، وهو مؤشر على وعي سياسي ناقص. أمريكا ليس لها مصالح وطموحات ضيقة مع دول معدودة. تحالفاتها ممتدة وتدخلاتها ليست محصورة في منطقتنا العربية. وإمكاناتها تفرض عليها مسؤوليات أكبر في إدارة الشأن الدولي، وموقفها من إدارة الملفات الإقليمية موقف مؤثر لا يمكن الاستهتار فيه.

ومقابل ذلك إيران أقرب لمجتمعاتنا في ضمير الشعوب العربية والإسلامية من أمريكا. والمصالح والعوامل المشتركة أكثر من أن يتم حصرها، والعاطفة الأخوية بين الدول العربية والإسلامية تجعلها مقدمة على غيرها من دول بعيدة. القرب الجغرافي والروابط التاريخية والدينية جعلت الدولة الإيرانية جزءا من تكوين هذه المنطقة، لكن جميع هذه الروابط المشتركة والنبيلة لا تلغي قواعد وشروط العمل السياسي، الذي يفرض على كل دولة احترام الدول الأخرى وعدم التدخل في شؤونها، والتأثير على استقرارها. ليس للدول العربية مشكلة مع إيران، إلا عندما تظهر ملامح لأطماع توسعية وهيمنة في المنطقة، من خلال تحركات سياسية تحقق هذا الهدف. البعض ربما ينساق خلف قراءات مذهبية، ويتصور أن هذا الاختلاف والمخاوف العربية من طهران نابع من هواجس طائفية، والواقع أن هذه الرؤية تخالف حقائق قريبة ومنطقا سياسيا محكوما بالمصالح الوقتية.

إن أي محاولة لتحقيق أطماع توسعية والعمل على التحول لقوة عظمى إقليمية تؤثر على موازين القوى في المنطقة سيكون مرفوضا من جميع الدول، فعندما ظهرت اطماع نظام صدام حسين، غير المحسوب على الشيعة في المنطقة، وتجاوز حدوده بغزو الكويت، تحالف العالم كله ضده، بما فيه سوريا، التي كانت مكافأتها من أمريكا بقاءها في لبنان طيلة فترة التسعينات..! إن كل دولة تتجاوز حدودها وتؤثر على الجوار عليها ألا تنتظر أن يسكت الآخرون عنها. وعندما تحاول امتلاك أسلحة لا يملكها جيرانها سيكون لقلقهم مبرر حقيقي. لقد وقفت إيران مع أمريكا ضد طالبان وقدمت مساعدات في تنظيم التحالف الشمالي الحليف القديم لإيران، وتفهم الكثيرون دوافع هذا العمل وفق إطاره السياسي العملي. الدول العربية سكتت سنوات طويلة عن وضع حزب الله، والدعم الإيراني له، طالما لم يكن له تأثير سلبي على سياسات المنطقة والداخل اللبناني. ودوره محصور في المقاومة وهدف محدد لتحرير الأرض، لكن عندما تجاوز هذا الهدف وبدأ يؤثر على القرار اللبناني لتحقيق أهداف خارجية، حتى بدأت تخرج تصريحات من إيران في الحديث عن شرعية الحكومة اللبنانية، فيحق للبنانيين والعرب القلق من امتداد هذه الهيمنة الإيرانية الجديدة. واستمرار التحالفات الضارة بالمصالح العربية.