تركة بينوشي

TT

سافرت إلى القاهرة في 6/12/2006 للمشاركة في لقاءين: الأول: اجتماع المجلس العربي للمياه، والثاني المؤتمر العربي الإقليمي للمياه، وعزمت أن أكتب عنهما، وسأفعل إن شاء الله، ولكن وفاة جلاد تشيلي الذي حكمها غصباً 17 عاماً وأدركته المنية في 11/12/2006 فرضت علي أن أكتب عن تركته.

في عام 1973م انتخب الشعب التشيلي رئيساً ماركسياً هو سلفادور اللندي فأزعج ذلك أثرياء البلاد، وقيادات القوات المسلحة، والولايات المتحدة في وقت كانت فيه الحرب الباردة على أشدها، لذلك تحالف هؤلاء جميعاً ودبروا انقلاباً عسكرياً بقيادة بينوشي أطاح بالحكومة المنتخبة.

التاريخ يثبت حقيقة الدور الأمريكي في الانقلاب، فقد قال وزير الخارجية الأمريكي يومئذ هنري كيسنجر إن الانقلاب يخدم مصالح أمريكا، كما نشرت أخيراً البرقية المرسلة لمندوب وكالة الاستخبارات الأمريكية في سانتياجو للعمل من أجل تدبير الانقلاب الذي وجد في ما بعد دعماً أمريكياً قوياً.

حكم بينوشي البلاد بيد من حديد، وخلافا لسجل غيره من الطغاة، حقق للبلاد تنمية رأسمالية مشهودة استمر عطاؤها حتى بعد سقوط نظام بينوشي، ولكن البلاد دفعت ثمناً غالياً تحت نظامه، فقد كان الانقلاب نفسه دموياً، وأقام حكماً وحشياً راحت ضحيته آلاف القتلى، وعشرات الآلاف من الجرحى، والمشردين في الآفاق. كان عهده كابوساً إنسانياً.

وفي أواخر أيام حكمه تصور أن إنجازاته الاقتصادية والانحياز الأمريكي له كفيلان بفوزه في استفتاء أجراه في البلاد، ليقرر الشعب الاستمرار في نظامه أو التحول الديمقراطي. اختار الشعب التحول الديمقراطي، وخلافاً لما فعلت طغمة بورما، امتثل بينوشي للقرار ووضع دستوراً ديمقراطياً، وسلم السلطة عبره لقيادة منتخبة، ولكنه ضمن الدستور عفواً عاماً لعهده، وعضوية لشخصه في مجلس الشيوخ مدى الحياة، أي انه مع كل وحشيته، نقل السلطة لمن خلفوه بصورة منهجية متحضرة.

كل البلدان التي تشهد انتقالا للسلطة من دكتاتورية إلى ديمقراطية سلمياً تواجه ضرورة العفو عن جرائم الطغاة ، ليقبلوا التحول الديمقراطي وتسليم السلطة، ويضمنوا سلامتهم الشخصية، هذه الضرورة هي التي أعطت زخما لفكرة العدالة الجنائية الدولية التي تقوم على أساس أن هناك جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية يرتكبها الطغاة، وتحول الظروف السياسية دون محاسبتهم، وإلى جانب فكرة المحكمة الجنائية الدولية التي صارت قانوناً دولياً، وبدأت المحكمة فعلاً عملها بمحاكمة تشارلس تيلور جلاد ليبريا، فإن بعض البلدان ـ إسبانيا مثلاً ـ شرعت قوانين لمساءلة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية مهما كانت جنسيتهم أو مكان ارتكابهم لتلك الجرائم.

المحامي التشيلي جوان كارتيز نصب نفسه مدافعاً عن كافة ضحايا بينوشي، وطرق كل الأبواب لمحاكمة الطاغية. وعندما سافر بينوشي لبريطانيا للعلاج في عام 1998م التمس المحامي كارتيز من المدعي العام الإسباني مطالبة السلطات البريطانية بتسليم بينوشي للمحاكمة في إسبانيا. الشرطة البريطانية احتجزت بينوشي لمدة عامين ريثما تقرر السلطات البريطانية بشأن تسليمه. الموضوع أثار جدلاً في بريطانيا انتهى بقرار إرجاعه لبلاده بحجة أن حالته الصحية لا تسمح بمحاكمته. بعد عودته لتشيلي رفعت عنه الحصانة وأُلغي قانون العفو عنه وقررت محاكم تشيلي قانونية مساءلته، وكشفت معلومات أنه بالإضافة لجرائمه ضد الإنسانية فقد كان محملاً بالفساد المالي، وقد كشفت حساباته بحوالي 28 مليون دولار في بنوك أمريكية، وبينما الاستعدادات جارية لمحاكمته أدركته المنية.

أغسطو بينوشي واحد من عشيرة استبداد، وفساد، وإجرام في العالم العربي، والإسلامي، والأفريقي، واللاتيني، والآسيوي وكان يرجى أن تكون محاكمته محاكمة رمزية لهم جميعاً. أبوالطيب شاعر العرب العبقري كانت له نظرات سالبة ظالمة للمرأة تقع ضمن العنف اللفظي ضدها، ولكننا نسحب بعض كلماته تلك على الطغاة والمستبدين:

يقولون هندٌ لها الغدرُ وحدها

سجية نفسٍ كلُّ غانيةٍ هِنْدُ!!

كثير من الأمريكيين، وعلى درجة عالية من الوظائف، اعترفوا أن بلادهم دعمت هؤلاء الطغاة لوجود مصالح مشتركة معهم. إن في إدانة هؤلاء الطغاة إدانة لتلك الشراكة غير المقدسة، ويرجى أن تشمل المراجعة الجارية للسياسات الأمريكية مراجعة لهذه الشراكات الفاسدة لأنها مهما خدمت مصالح أمريكية في المدى القصير تهدم المصالح الأمريكية على المدى الوسيط والبعيد وتكتسب عداوة الشعوب.

الاستبداد ملة واحدة. ومع أن بينوشي من أفضل أساقفة هذه الملة اللعينة بسبب إنجازاته الاقتصادية وتسليمه المتحضر للسلطة، فإن ما ارتكب من جرائم ضد الإنسانية لا يمحوه التقادم.

وإذا عجزت أجهزة العدالة الوطنية في ملاحقة هؤلاء الاستبداديين، فإن ما استجد من نظام روما وقيام المحكمة الجنائية الدولية، وما استجد في البلدان الغربية من تشريعات تسائل وتحاكم الجناة على صعيد عالمي، تطورات فيها عزاء لضحايا الطغيان، وتعزية للشعوب المنكوبة.

ولا يجوز أن يسمح للقتلة والجلادين الاحتماء وراء ستارة السيادة فلا صوت يعلو فوق حقوق النفس الإنسانية لأن «ومَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» (سورة المائدة الآية 32 ).

هذه التطورات القانونية الحميدة يمكن أن تضع حداً لظاهرة الإفلات من العقوبة وتقيم رادعاً لطغاة المستقبل.

إن في تركة بينوشي درساً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.