حقائق مرة عن تحديات المنطقة

TT

نستطيع طبعاً أن نتجاهل المحنة المتطاولة التي تلم اليوم بفلسطين والعراق ولبنان والسودان، والتي قد تمتد أبعد من ذلك في الجسد العربي المريض. ولكن هل الهروب من مواجهة الحقيقة أفضل الوسائل للتعايش مع هذا الواقع المرير؟

في رأيي المتواضع .. لا. خداع الذات ليس هو الحل الأنجع.

ولندع الشعارات والتمنيات جانباً.

ثمة حقائق علينا كعرب أن نواجهها بشيء من الصراحة الموجعة، إن كان لنا أن نتحاشى ما هو أبشع وأفظع.

أنا من المقتنعين أن قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى. هي الأساس، وهي معيار شرعية أي نظام عربي ومحك صدقيته. ولكن، بالإذن من أخوتي الفلسطينيين، ليست قضية فلسطين القضية العربية الوحيدة. وبالتالي، لا يجوز، أن نتناول كل قضايا المنطقة من المنظور الفلسطيني الإسرائيلي وحده.

بالأمس دار حوار صريح بيني وبين صديق فلسطيني رائع في وطنيته واعتزازه بهويته، طرحت أمامه رأيي هذا من واقع امتعاضي من التضليل الإعلامي والحقن الديماغوجي الممارس حالياً إزاء الوضع الخطير في لبنان. فبادرني قائلاً: «طبعاً يا أخي ... قضية فلسطين هي القضية الأولى لكنها ليست القضية الوحيدة. هناك قضية حقوق الإنسان في فلسطين وغير فلسطين، وقضية التخلف، وقضية المرأة، وقضية التنمية ... و .. و .. إلخ.

وتابع، بعدما أبديت أمامه هلعي من جريمة قتل الأطفال الثلاثة في غزة، «دعني أخبرك ما حصل ذات يوم عندما كان أبي يعمل في ميناء يافا في أواخر عقد الثلاثينات (ثورة الـ«1936»). يومها اغتال المناضلون التابعون للحاج أمين الحسيني أحد كبار المسؤولين في الميناء لأنه رفض إعلان الإضراب، وكان مبرّر رفض هذا المسؤول العاقل المسكين أنه سيكون من الغباء إعلان الإضراب وإقفال الميناء في الوقت الذي بدأ المستوطنون اليهود العمل بميناء لهم على الساحل الفلسطيني».

«... للأسف ـ يقول صديقي ـ انتصر منطق الغوغاء على منطق العقل، ومنذ ذلك الحين دانت الساحة للغوغاء لا العقل. بربك قل لي كيف ستخسر إسرائيل إذا فقد لبنان والعراق وفلسطين خيرة الأدمغة والسواعد بفعل الهجرة؟ نزيف الهجرة هذا لن يبقي على شيء في منطقتنا. أنا أفهم في الاقتصاد ولم أزعم في يوم من الأيام أنني أفهم في السياسة. إن ما يحدث في بلداننا كارثة .. كارثة حقيقية».

غير أن هذه الكارثة التي يراها صديقي لا يراها آخرون.

فخلال الأسبوع الماضي أعجبني كثيراً التقرير المفصل الذي أعدته وكالة «أ ف ب» الفرنسية من بيروت عن المال «النظيف الطاهر» الذي تموّل به إيران «حزب الله» ومؤسساته الاجتماعية وجهده الحربي. وأكثر ما أعجبني قول السيد بلال نعيم، معاون رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله»، لمراسلة الوكالة الفرنسية أن المؤسسات التابعة للحزب تتلقى تمويلا من «المال الشرعي» الذي يقدمه المرجع الشيعي آية الله علي خامنئي، المرشد الاعلى للجمهورية الايرانية. وإيضاحه ان هذا المال هو جزء من المساهمات التي يقدمها كل الشيعة في العالم الى المرجع الاسلامي (الخمس) وهي مخصصة للصالح العام وللمجموعات التي تعاني من مشاكل وظلم في العالم. وتشديد السيد نعيم على ان هذا المال ـ الذي أنفق منه بشكل مساعدات وتعويضات بعد حرب تموز/يوليو حوالي 300 مليون دولار أميركي ـ «نظيف وطاهر»، كما يقول الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، لأن الذين يقدمونه لا «يبتغون مكسباً سياسياً من ورائه» و«لا ارتهاناً به لأحد» في المقابل!

لا أدري ما إذا كان هذا المال الآتي من الخارج إلى خزائن الحزب ومشاريعه التعليمية والتطبيبية والإنمائية والإعلامية المتعددة، له صفة قانونية في مفاهيم الدول الديمقراطية السيدة المعاصرة. ولا أدري إذا كان «الخمس» يذهب إلى غير أبناء الطائفة. لكن ما أعلمه علم اليقين هو أن سياسات الحزب الحربية و«الاعتصامية» والإعلامية تؤثر بصورة مباشرة على أرزاق جميع اللبنانيين من مختلف المناطق والجماعات المذهبية ... مع أنه لا يستشير بها أحد.

ناحية أخرى، بحاجة إلى تفكير سليم، هي طريقة تعامل دمشق، عاصمة الممانعة العربية الوحيدة، مع حالتي العراق ولبنان.

في العراق، حيث ما زال هناك أكثر من 100 ألف جندي أميركي وبريطاني وحكومة عراقية انتخبت غالبيتها البرلمانية تحت الاحتلال، وحيث تجمع المصادر على أن مقاومي الاحتلال ـ وجلهم من السنة ـ تلقوا ويتلقون الرجال والمال وربما السلاح عبر الحدود مع سورية،... ها هو العلم السوري يخفق من جديد فوق مبنى السفارة السورية في بغداد.

أما في لبنان، حيث انتخب الشعب الغالبية الداعمة للحكومة الحالية في بلد متحرر من أي وجود عسكري غير لبناني، فترفض دمشق ليس فقط تبادل السفراء مع لبنان، بل ترفض أيضاً ترسيم الحدود لضمان انسحاب المحتل الإسرائيلي من مزارع شبعا. وترفض علناً إنشاء محكمة ذات طابع دولي تحقق في جريمة اغتيال سياسية كبرى مع أن دمشق تؤكد براءتها منها. بل، وترعى يومياً، عبر إعلامها الرسمي والإعلام المتفرع عنه داخل لبنان، حملة مبرمجة لإسقاط الحكومة في الشارع.

أما المضحك المبكي في هذه المهزلة فهو أنه بينما تتحرك قوى المعارضة في لبنان بكل حرية وتصدح أبواقها في وسائل الإعلام المتعددة صباح مساء، لم نسمع من أجهزة الإعلام التلقيني «التنويري» في دمشق أي مناقشة او مواجهة من النوع ذاته تشارك فيها القوى السورية الحزبية الحاكمة والقوى السورية المعارضة سواء حول الوضع في سورية او لبنان ... أو فلسطين الزاحفة فعلاً نحو الحرب الأهلية.

في هذه الأثناء، تنشط المساعي العربية محاولة لملمة ما يمكن لملمته من حالات الانهيار الخطير. لكن أصحاب الرأي سيكتشفون قريباً ـ على الأرجح ـ أن ثمة حقائق تستحق أن تعرف قبل فوات الأوان. وثمة استحقاقات يجب التحسب لها من الآن ... أيضاً قبل فوات الأوان. وثمة قراءات مغلوطة للمناخ الإقليمي المخيف الذي ينذر بأن يصبح أكبر من قدرة اللاعبين المحليين مع التعامل معه بعدما سمحوا لأنفسهم بالتورط فيه طمعاً بابتزاز أو هرباً من مسؤولية أو تحسيناً لشروط تفاوضية.

بإزاء هذه المعطيات، الثمن الباهظ في نهاية المطاف سيدفعه المواطن العربي المسكين من مستقبله ومستقبل أولاده. وكلما أسرعنا في تغليب منطق العقل على منطق الغوغاء... وفرنا على شعبنا مزيداً من المعاناة.