ديمقراطيات الأزمات

TT

على الرغم من الفروق النوعية بين الأزمات الثلاث الكبرى التي تشهدها المنطقة راهنا، (الفتنة الداخلية في العراق، وصراع حركتي فتح وحماس في فلسطين، والصراع الداخلي اللبناني)، فإنها تتفق في نقطة جوهرية، هي إخفاق الآلية الديمقراطية في حل المعضلة السياسية الداخلية التي يطرحها واقع التنوع والتعددية، مع العلم أن هذه الآلية وضعت لإدارة الاختلاف وضبط التنوع.

ولا يعني هذا القول تحميل المسلك الديمقراطي مسؤولية هذا الاحتقان والتأزم، بل أن غرضنا من هذا التحليل هو إثبات العكس بإبراز أوجه القصور في التجارب المذكورة.

صحيح أن هذه التجارب الثلاث عانت في انطلاقتها واستمراريتها من شوائب الاحتلال الذي هو واقع قائم فعلا في فلسطين والعراق، وعامل حاضر في الحالة اللبنانية (العدوان الإسرائيلي المستمر والانكشاف الدائم أمام التدخل الخارجي). بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن البلدان الثلاثة عرفت أكثر تجارب الانفتاح الديمقراطي جدية في العالم العربي، حتى ولو كانت أخفقت في تأمين الثمن المطلوب من الانفتاح السياسي أي السلم الأهلي والتداول السلس على السلطة.

ولنبدأ بالساحة اللبنانية حيث يخيم شبح الحرب الأهلية التي خرجت منها البلاد في مطلع التسعينات بعد عقدين من الفتنة الدامية الطويلة.

ففي الوقت الذي لا تزال حشود المعارضة المتمحورة حول حزب الله وحركة أمل وأنصار سوريا معتصمة أمام مقر الحكومة، يتشبث تحالف 14 آذار ذي الأغلبية البرلمانية بخيار المحكمة الدولية في جرائم الاغتيال السياسي التي عرفتها البلاد (الحريري والساسة والإعلاميون الذين اغتيلوا من بعده).

ومع ان النظام السياسي اللبناني محكوم بآلية ديمقراطية ثابتة قائمة على توازنات طائفية دقيقة، إلا أنه يتعرض دوريا لهزات عنيفة تتولد عادة عن انهيار تلك التوازنات أو تغيرها بتأثير المعطى الخارجي في الغالب. وعندئذ تصبح الآلية الديمقراطية عاجزة عن تأمين الاستقرار السياسي والسلم الأهلي، حتى لو احترمت قواعد اللعبة ومعايير التنافس النزيه والشفاف.

حدثت الأزمة الدامية في التسعينات لالتقاء العاملين (انهيار التوازن الطائفي ودخول الثورة الفلسطينية لاعبا محوريا في الساحة اللبنانية)، وكان لا بد من انتظار مؤتمر الطائف عام 1989 لتجديد قواعد اللعبة السياسية اللبنانية من منظور التوازنات الداخلية والإقليمية الجديدة.

واليوم إذ تعود نذر الأزمة مجددا، تختلف المعطيات والرموز، من دون أن تبطل القاعدة.

ذلك أن رهاني الأزمة الراهنة يتلخصان في الوضع الجديد للطائفة الشيعية، الذي أحدث تغييرا ملموسا على خارطة التوازنات الداخلية وآثار الخروج السوري من لبنان الذي شكل منعطفا مهما في تاريخ البلاد المعاصر، ويتشابك العاملان في مستويات عديدة، لا تحتاج لمزيد إجلاء.

أما الحالة العراقية فتبدو مختلفة الرهانات والخلفيات، على الرغم من المقارنات التبسيطية الظاهرة (الصراع السني ـ الشيعي المشترك بين البلدين). فالتجربة الديمقراطية العراقية جديدة، بدأت مع سقوط النظام البعثي ودخول القوات الأمريكية. ولئن كان العراق شهد أكثر الانتخابات شفافية ونزاهة في تاريخه، عكست الموازين الطائفية والقومية الحقيقية، بعد عقود من الدكتاتورية ومن تهميش الشمال الكردي والجنوب الشيعي، إلا أنها أفضت إلى الفتنة الدامية. وقد أصبح البلد فعلا على حافة التفكك والانقسام حسب التقرير الأخير لمجموعة الأزمات الدولية الذي يعضده تقرير بيكر ـ هاملتون الذي كثر الحديث حوله مؤخرا.

وإذا كانت الآلية الانتخابية قد عكست الموازين القائمة، إلا أنها لم تفض إلا إدارة ديمقراطية للصراع السياسي الداخلي، باعتبار أن هذه الآلية ليست سوى العنصر الإجرائي من النسق الديمقراطي الذي يقتضي أرضية اندماجية تشكل النسيج الوطني للأفق السياسي في تعدديته واختلافيته. فبدون هذه الأرضية ينتقل الصدام إلى جذور العقد الوطني نفسه، مما يفضي إلى الفتنة المعممة والصراع الداخلي، بحيث تصبح الآلية الانتخابية أداء من أدوات الصراع وليست حلا له.

ومع أن الساحة الفلسطينية تختلف من حيث التركيبة والرهانات عن الساحتين اللبنانية والعراقية (حيث العامل الطائفي حاسم)، إلا أن الإشكال يظل قائما بالحدة ذاتها، وأن من منظور آخر هو التباين في الخيار الاستراتيجي الجوهري المتعلق بمشروع الدولة، وعلاقته بمعادلة الاحتلال.

فالمفارقة القائمة هنا هي أن حركة حماس الرافضة لمبدأ الدولتين، قد نفذت إلى مركز القرار الذي سمحت به اتفاقية أوسلو التي قننت معادلة التسوية مع إسرائيل، فدخلت في صدام جذري مع المنظمة التي تحتكر شرعية التمثيل الفلسطيني دوليا.

وهكذا أفضى التباين الجوهري في فلسفة ورؤية المشروع الوطني الفلسطيني بين الحركتين إلى صراع مرجعيات وشرعيات، ليس بمقدور الآلية الانتخابية الشكلية أن تحسمه. (للموضوع صلة)