نحن أحفاد قابيل وهابيل!

TT

شيء غريب فى كل مكتبة ترددت عليها وجدت اكثر الكتب عن الجريمة: كتب بوليسية.. احدث كتب الجرائم.. اكثر الكتب انتشارا عن الجريمة.. جرائم كلاسيكية.. جرائم الكترونية. اما كتب الفلسفة فأقل من كتب الادب وكتب الادب اقل من كتب التاريخ. وكتب التاريخ اقل من كتب الفلك وكتب الفن اقل من كتب الرياضة والألعاب..

كأن الانسان لم يشبع من اشكال الدمار والنار.. فى الحروب والانتفاضات الشعبية. والإضرابات. كل هذه الصور العنيفة الدامية لم تقنع الانسان بأن يكتفي بهذا القدر ويقلع عن التعطش للدماء والنار والعنف والرعب!

فلا تزال أفلام الرعب تلقى هوى عند المشاهدين. فالناس يقفون طوابير قلقة ويتزاحمون على الافلام المخيفة. انهم بمنتهى الهدوء يذهبون لتهزهم الشاشة وتمزق اعصابهم. ويخرجون سعداء بهذا الزلزال النفسى. وماداموا كذلك فإن احداث العنف والقتل قد اعتادوا عليها ويطلبون المزيد.. ولم نعد ندرك الفارق بين المعارك فى الافلام والمعارك الحقيقية.. وعلى الشاشة نجد المقاومة الشعبية والمقاومة الفنية.. اما المقاومة والعنف في الافلام فهي أدق وأكثر إثارة لأنها عمل بالعقل ويسرد للوقائع بالمنطق. ولذلك كانت الدماء الفنية أجمل وأعمق أثرا..

فنحن احفاد قابيل الذي قتل اخاه هابيل.. فالدماء والانتقام والحقد يجري في عروقنا. ومن اجمل المشاهد فى فيلم قديم اسمه (الكتاب المقدس) بطولة صوفيا لورين.. ان نجد دماء قابيل تسقط فى ماء النهر الذى يصب في كل انهار الدنيا التي شربنا منها.. شربنا دم القتيل.. فدم القاتل والقتيل يلتقيان فى عروقنا. ولذلك نحن حريصون على إحياء هذه الجريمة او مشاهدتها في الواقع والفن..

ثم ان الحياة اليومية مملة. وتحتاج الى ما يفتح الشهية على الحياة. ولم نجد حتى الآن الا الشطة والملح والجريمة في الكتب او على الشاشة! وفي احدى قصص الاديب الانجليزي (كونان دوبل) الذي اخترع شخصية شيرلوك هولمز البوليسية أن أما اعتادت ان تروى لطفلها قبل اليوم بطولات والده الذي مات فى الحرب. وكان الطفل لا ينام بسهولة. وكان يدهشها بأسئلته الغريبة. ويسألها: كيف كان ابي يحارب العدو دون ان يقتل احدا بالمدفع. وإذا نفدت الذخيرة لماذا لا يهجم عليه ويقتله بيديه..

وكانت الام تفزع وتحاول ان تهرب من الإجابة فكان الطفل ينفض الغطاء ويستوي جالسا متسائلا: هل تحاولين اقناعي بأن ابي لم يقتل احدا. لابد انه قتل وهذا ما اريد ان اسمعه بالتفصيل لكي أؤمن بعظمة والدي.. وتستسلم الام. وتتحدث عن جرائم والده البطل في الحرب. ولا يكاد الطفل يسمع ذلك حتى تبدو الراحة على وجهه وينام! إنهم وإننا اولاد العنف والجريمة اولاد الحروب. وقد قال لنا المؤرخ العظيم ول ديورانت ان الحروب قد استغرقت من تاريخ الانسانية 1127 سنة.. اما سنوات السلام فلم تزد على مائة وعشرين سنة! فكيف لا نفرح بالجريمة وكيف لا ننام على موسيقى المدافع والقنابل وتستمتع عيوننا بدماء الآخرين!