الحياة بعقاقير وردية!

TT

أنا شقي.. أنا تعيس.. أنا مكتئب.. كلها ألفاظ تعبر عن دواخل الانسان، وسعيه الحثيث في التطلع الى تذوق طعم السعادة.. من اين تنبع السعادة؟! هل تأتي من محافظة الانسان على توازنه النفسي، المتمثل في قيمه ومبادئه من ناحية، وبين تطلعاته وغاياته من ناحية اخرى؟! هل السعادة تخضع للمزايدة؟! هل من الممكن شراؤها؟! ام ان السعادة مرتبطة بالمشاعر والاحاسيس، التي تعتبر صنيعة الخالق؟! هل السعادة تكمن في حصول الانسان على ما يريد حتى يصاب بالتخمة، ام ان كل شيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده كما يقولون؟! هل الشبع اول الطريق الى الكآبة، اذا حصر الانسان مطالبه الحياتية في ارواء متعه الحسية؟! هل السعادة مرتبطة بالمال، كونه الوسيلة المشروعة في المجتمع للحصول على كافة لوازمه؟! هل الترف المادي عامل اساسي لجلب السعادة؟! اذا كان الامر كذلك، لِمَ نجد الكثير من الاغنياء، الذين يملكون كل شيء، يعيشون في شقاء؟! هل النهل من ينابيع المعرفة، وبال على صاحبها، كون العاقل يشقى بعقله، والجاهل ينعم بجهله؟! هل العلم نجح في جعل الانسان دوما سعيدا؟! هل نزع مشاعر الخوف والقلق من دواخل الانسان خير على البشرية؟! هل قتل الانفعالات من خلال التحكم في الجينات، سينتج في المستقبل اجيالا سوية، ام انها ستنشئ اجيالا فاقدة لاحاسيسها الصادقة، وروحانياتها الفطرية، التي هي اساس العلاقات بين الافراد بداخل المجتمعات؟! لقد استطاع العلماء بعد جهد جهيد اكتشاف الخريطة الوراثية للانسان، واعلنوا ان بامكانهم من خلال هذه الخريطة القضاء على جينات الكآبة، وصناعة عقاقير سحرية تجلب السعادة للانسان، والتحكم في ردود افعال الانسان بواسطة ادوية معينة، تساهم في استقراره نفسيا، وتساعده على مواجهة اوجه الحياة بكل سلبياتها، لا ادري هل ستكون السعادة المركبة في اجواء المختبرات الطبية سعادة حقيقية، ام انها ستغدو سعادة مصنعة، لا طعم لها ولا رائحة ولا مذاق؟! انني اشبهها بالحب الذي نشاهده في الافلام العربية، وعلى خشبات المسارح، وفي المسلسلات التلفزيونية، الذي يؤديه ممثلون محترفون تنتهي ادوارهم بانتهاء المشهد!! ومثل الصداقات المزيفة التي تقوم على المنافع الشخصية. ان السعادة التي ينبثق شعاعها من المعامل، تحول الانسان الذي يتدفأ بها، الى آلة مبرمجة فاقدة القدرة على التفاعل مع الاشياء من حولها، لكن بلا شك هناك حالات مرضية ستفيدها هذه العقاقير، وقد اثبت الطب النفسي، ان هناك كذلك حالات من الضعف الجنسي، بالامكان معالجتها عن طريق العقاقير، من خلال التحكم في نوعية اللذة الموجودة في مراكز المخ، وفي علاج بعض حالات الصرع والاكتئاب التي تعود لعوامل وراثية، لا دخل للعوامل البيئية في وجودها، وتوجد بعض الحالات بين عدد من الفنانين على مختلف توجهاتهم، مثل الكاتب الامريكي ارنست هيمنجواي الذي كان يملك كل شيء، مع هذا انهى حياته بأن اطلق النار على نفسه، وداليدا المغنية الفرنسية الذائعة الصيت التي انتحرت بابتلاع كمية كبيرة من الحبوب المهدئة، والكاتبة الانجليزية فرجينيا وولف، التي كانت تنتابها حالات من الجنون بين فينة واخرى، وكتبت اجمل رواياتها وهي في حالة اللاوعي، وفان جوخ الرسام العالمي الهولندي، الذي كان يعاني من الفصام، وقتل نفسه بعيار ناري في بطنه. مع هذا لعبت نوبات الاكتئاب، والقلق المرضي، لدى هؤلاء الفنانين دوراً حقيقياً في ابداعاتهم، وفي تأليف اعمال خلدتها البشرية الى اليوم.

يقول المفكر الدكتور مصطفى محمود، على لسان احد ابطال قصصه «.. اريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة اكتشاف.. لحظة معرفة.. اريد لحظة تجعل لحياتي معنى.. ان حياتي من اجل أكل العيش لا معنى لها.. انها مجرد استمرار..» هذه العبارة القصيرة، تبين ان السعادة ليست من اجل توفير المأكل والملبس فقط!! وان الحياة اعمق من هذا بكثير، والانسان لا يعيش من اجل ان يأكل، وانما يأكل لكي يصارع الحياة، ويجاهد فيها من اجل تحقيق اهدافه وامانيه واحلامه.. كما ان الحب يجلب السعادة اذا كان هناك تكافؤ فكري وعاطفي بين الطرفين المتحابين، لأن الحب الذي لا يجلب السرور والفرحة لقلبي صاحبيه لا يعد حبا، بل هو نوع من تعذيب الذات. حتى الدهشة التي تجتاح المرء من حين لآخر على مدار عمره، تحرك في اعماقه مشاعر شتى، وتحسسه بالنشوة، وتشعره انه ما زال حيا، لأنها تدفع عنه حالة الملل والخمود والضجر التي يحيا في دائرتها نتيجة الروتين والعادة. كما ان انفعالات الانسان المتمثلة في القلق والتوتر والضجيج المصاحب لهما، تشعل في داخله جمرة الحماس، وتدفعه للمحاولة مرارا ومرارا ليصل لمراده، حتى الخوف، هناك ما هو سلبي، يقذف بالانسان الى هوة الهلاك اذا افسح المجال له في السيطرة على حياته، مثل الخوف من زوال المال والمجد والشهرة!! الخوف من الشيخوخة!! الخوف من المرض!! الخوف من فقدان الاحباء!! وهناك خوف ايجابي، كالخوف من الله، الذي يحث الانسان على بقاء ضميره متيقظا، متنبها، ليغدو حصنا منيعا امام المغريات الحسية التي تتراقص من حوله بصفاقة، في زمن اضحى كل شيء له ثمن!! وهناك الحرص على كبح الذات، خوفا من تبعات الانزلاق والتهور، وهناك الخوف من المجتمع، من خلال التمسك بمبادئه وقيمه ومثله، التي توثق روابطه مع افراده. اذا نظرنا للمعرفة، نجد انها نافذة مشرعة لصقل الشخصية، وبناء فكر الانسان، كون المعرفة تعري العالم امام ناظريه، وتكشف خباياه التاريخية، من خلال النهل من ضروب الثقافات المختلفة، وكلها تجعله فردا فعالا، يساهم في صلاح مجتمعه، وفي التفاعل بقوة مع قضاياه.

هل السعادة هدف متحرك كما يرى بعض المفكرين؟! يرى الكثير من الاخصائيين ان التوافق مع المجتمع يلغي التطور الحادث في المجتمعات، وان التناقض في بعض الاحيان سمة من سمات التقدم، والتمرد على الواقع، والقلق تجاه ما هو حاصل هو الذي يدفع المرء الى صلاح مجتمعه، وإلا تحولت المجتمعات الى قوالب جامدة. ان السعادة في ارتقاء الانسان بذاته، بالانغماس في تحقيق طموحاته، والايمان بالقضايا الانسانية، والسعي الى ايجاد حلول لها على المستوى العالمي، وفي التلهي بأعمال معينة، ينجز من ورائها الكثير. السعادة لا يمكن ان تحصر في حبة صغيرة، يبلعها الانسان السوي ليرى الحياة من حوله وردية، او ابرة يغرسها تحت جلده ليرقص رقصة فالس حالمة مع الحياة على شموع سعادة وهمية. السعادة ثمرة يقطفها الانسان بعد معاناة وألم ودموع.