شارون يخدع الأميركيين الآن كما خدعهم مع بيغن في لبنان

TT

سيلهث الأميركيون مرة اخرى وراء استقرار الشرق الأوسط كما لهثوا من قبل عندما غزا شارون لبنان وحاصر بيروت تسعين يوما.

الادارة الجمهورية هي كالادارات الجمهورية التي سبقتها، تسعى لنيل تأييد اعضاء الكونغرس واسنادهم الذين ينتمون للحزب الديمقراطي لتمرير مشاريعهم المتصلة بالسياسة الداخلية الأميركية (كالضرائب وتقييد بيع الأسلحة وصرف موازنات طائلة لأنظمة عسكرية جديدة ذات طابع هجومي او دفاع هجومي).

وبما ان السياسة التقليدية لأعضاء الكونغرس من الديمقراطيين هي التأييد الأعمى لاسرائيل (إجمالا) فقد كانت الادارات الاميركية الجمهورية تساوم وتخاطر بمصالحها في الشرق الأوسط وبعلاقاتها مع الدول العربية مقابل تأييد الديمقراطيين لمشاريع قوانين تقترحها الادارات الجمهورية للتعامل مع القضايا الداخلية.

بعد خمسة اشهر من تسلم جورج بوش الادارة، تحرك كولن باول واعلن عن تبني الولايات المتحدة تقرير لجنة ميتشل وطالب الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني بوقف فوري لاطلاق النار وكلف وليام بيرنز (سفير الولايات المتحدة لدى الأردن) بترؤس فريق عمل من اجل وضع جدول زمني لوقف اطلاق النار واعادة الحياة الى المفاوضات فترة زمنية كافية من الهدوء.

هذا يذكرنا بما جرى في لبنان عام 1982. واليكم قصة تلك الغزوة وتصرف الإدارة الأميركية، ادارة الرئيس رونالد ريغان الجمهورية ازاءها. كان انذاك جورج بوش (الأب) نائبا لريغان رئيس الولايات المتحدة انذاك.

طلب شارون عامي 1981 و1982 عدة مرات من الإدارة الاميركية الموافقة على خطة سلامة الجليل لتطهير جنوب لبنان من الفلسطينيين لمسافة اربعين كيلومتراً، وابعاد صواريخهم التي كانت تطلق على مستعمرات الجليل. وفي آخر زيارة لشارون إلى واشنطن في شهر ابريل (نيسان) عام 1982 كاد شارون يدفع وهو يطالب الادارة الاميركية بالسماح لاسرائيل بشن هجومها لابعاد صواريخ الفلسطينيين 40 كيلومتراً شمال الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية لحماية الأطفال الاسرائيليين الذين يقتلهم الارهابيون الفلسطينيون في مدارسهم وبيوتهم في الجليل.

بعد كل هذه المحاولات وافقت الادارة الاميركية تحت بند الالتزام بأمن اسرائيل والاسرائيليين على خطة سلامة الجليل. وابلغنا في تلك الايام احد المطلعين على دقائق الأمور ان الرئيس ريغان قال لشارون: «او كي». نفذ الخطة ولكن عليك ان تعلم انه اذا فشلت في تصفية «م. ت. ف». فلا بد من ان تتعاملوا معها بعد ذلك.

كانت الموافقة الاميركية مرتبطة بالخطة. واعطى ريغان الضوء الاخضر لشارون (الذي بلغه لرئيسه مناحم بيغن) كي يجتاح جنوب لبنان لمسافة اربعين كيلومتراً وصولاً إلى قلعة الشقيف قرب ارنون جنوب لبنان، وان يصفي قوات منظمة التحرير الفلسطينية في تلك المناطق وان يفرض على لبنان عدم السماح لاي مقاتل فلسطيني بالعودة لهذا الشريط الذي يمتد على طول الحدود الاسرائيلية ـ اللبنانية بعمق اربعين كيلومترا شمال تلك الحدود.

وبالفعل قام شارون بغزو لبنان في الخامس من جوان (حزيران) عام 1982 ولكن بدلاً من تنفيذ الخطة التي وافقت الإدارة الاميركية على ان تقوم اسرائيل بتطبيقها، قام شارون بخداع الاميركيين وامر قواته بالاستمرار في الاندفاع نحو المناطق الشرقية من بيروت ومحاصرة المناطق الغربية حيث كانت تتمركز القيادات الفلسطينية. في اللحظة التي اندفع فيها الجيش الاسرائيلي براً من الحدود الجنوبية للبنان نحو شمال الحدود كانت طائرات اف ـ 16 تقصف كافة المواقع في لبنان، وجرت محاولة فاشلة لإنزال القوات على شواطئ بلدة خلدة، ضاحية بيروت البحرية الجنوبية، أي انه من اللحظة الأولى للغزو خرق شارون اتفاقه مع الاميركيين عندما اكملت القوات الاسرائيلية توغلها حتى قلعة الشقيف (بوفور). طار مناحم بيغن للقلعة الجميلة ليعلن انتهاء عملية سلامة الجليل وان الاسرائيليين في الجليل سينعمون بالأمان بعد الآن.

كان اعلان بيغن هذا مطابقاً لما اتفق عليه مع الاميركيين، الا ان شارون قرر الاستمرار في الغزو ليطبق ما كان بذهنه من قبل وهو محاصرة بيروت لقتل قيادات «م. ت. ف» أو اعتقالهم وتعيين حكومة لبنانية موالية لاسرائيل توقع معها معاهدة سلام وتعاون.

لكن صمود الفلسطينيين تحت الحصار والقصف الجنوني بكافة انواع الاسلحة المحرمة والمدمرة براً وبحراً وجواً افرز نتيجتين مهمتين:

الأولى: ان الاميركيين ايقنوا انه بالرغم من استخدام شارون لترسانة اسرائيل العسكرية الضخمة والمتطورة فقد فشل في تصفية القيادة الفلسطينية أو اعتقالها وان منظمة التحرير الفلسطينية ما زالت قادرة على منعه من دخول بيروت شبراً واحداً.

وعليه فإن على اسرائيل ان تبدأ بالتعامل مع منظمة التحرير لايجاد حل سياسي وليس عسكرياً للصراع العربي ـ الاسرائيلي. ومن هذا المنطق ارسل ريغان فيليب حبيب لوقف اطلاق النار في لبنان واجراء ترتيبات مناسبة لخروج مقاتلي وقيادات «م. ت. ف» من بيروت.

ولهذا السبب بالذات طرح ريغان ضرورة ايجاد حل سياسي للصراع في الشرق الأوسط على اساس معادلة اميركية سماها ريغان «الارض مقابل السلام»، وهي تطوير معين للقرار 242 الذي كانت الولايات المتحدة قد صاغته وفرضته على مجلس الأمن في جوان عام 1967.

أما الافراز الثاني لما جرى من خرق شارون لخطة سلامة الجليل فهو اعتزال بيغن للحياة السياسية بسبب خداع شارون وكذبه حول ما جرى في لبنان وحجم الخسائر في صفوف المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين وحجم الخسائر الاسرائيلية.

فقد اخفى شارون عن رئيس وزرائه (كما خدع الاميركيين وكذب عليهم بشأن الاربعين كيلومتراً شمال الحدود) الارقام الحقيقية للخسائر في صفوف الاسرائيليين والمواقع الفعلية للجيش الاسرائيلي. وفوق هذا وذاك رفض رئيس لبنان الجديد آنذاك بشير الجميل توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل لانه يريد التشاور حول ذلك مع الدول العربية.

جن جنون بيغن. فالثمن الذي دفعته اسرائيل كان باهظاً وشعر ان شارون جر اسرائيل لمغامرة بهدف اخراج لبنان من الصراع العربي ـ الاسرائيلي عبر معاهدة سلام (دفعت اسرائيل ثمنها دم جنودها) كذب عليه ولم يحقق ما وعد به، فاعتزل السياسة نهائياً. واليوم يعيد شارون السيناريو ذاته، لكنه هذه المرة ضد «م. ت. ف» وقيادتها على الأرض الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل وليس في أي مكان آخر. ويعيد شارون السيناريو وهو يشغل منصب رئيس وزراء في اسرائيل وليس وزير الدفاع، وهو يتصرف بشكل دكتاتوري كامل الدكتاتورية، اذ لا يعير أي رأي لأي وزير وزنا.

ويستخدم حزب العمل استخداماً كاملاً ويستخدم شيمعون بيريس (حامل جائزة نوبل للسلام) استخداماً واسعاً للترويج والدفاع عن استخدام اف ـ 16 والصواريخ الثقيلة وطائرات الهليكوبتر الاباتشي ضد شعب اعزل (ولا شك لدي ان بيريس سيحاكم حياته السياسية بعد هذه الفضيحة كما انهى بيغن حياته السياسية). شارون الذي ابلغ الادارة الاميركية الجمهورية الراهنة موافقته على اعتبار تقرير ميتشيل اساساً صالحاً (باستثناء بند وقف بناء المستوطنات وتوسيعها) فعل ذلك لكسب الوقت وخداع العالم. مستمر شارون في اعتدائه على الشعب الفلسطيني وتصعيد هذا الاعتداء وقد يصل قريباً إلى تطبيق بند من بنود خطة (حقل الشوك) وهو اعادة احتلال بلدات ومدن فلسطينية تقع تحت سلطة الفلسطينيين حسب الاتفاقات الموقعة بين «م. ت. ف» والحكومات الاسرائيلية المتعاقبة.

ورغم تأكيد شارون لوزير الخارجية الاميركي باول انه لن يكرر استخدام طائرات اف ـ 16 وانه لن يعيد احتلال مناطق تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية الا انه سيفعل في محاولة لخلق واقع جديد قبل ان يكسو عظام المبادرة الاميركية لحم المفاوضات السياسية.

وسيحاول ان يقتحم مواقع رئيسية للسلطة الوطنية لانه يعيش في وهم قديم، مفاده ان القوة العسكرية الاسرائيلية بامكانها إرغام العرب على القبول بما يجود عليهم به شارون.

ان هذا المجرم التافه، لا يتورع عن ارتكاب كل ما هو لا اخلاقي، سواء كان ذلك لا اخلاقيا عسكريا أو مدنيا. وسيبقى المبعوث الاميركي الجديد بيرنز في رواحه ومجيئه من دون نتائج لفترة من الوقت تحت حجة أن ياسر عرفات مستمر في شن هجماته الارهابية على الاسرائيليين (في الوقت الذي يقوم هو فيه باصدار التعليمات لسفك دماء الفلسطينيين واعادة احتلال ما تحرر من اراضيهم). وعندما اصدر شارون أوامره باستخدام طائرات اف ـ 16 ضد اهداف فلسطينية، كنت اشرح لوفد من الاوروبيين دعوتهم لتناول الغداء على شرفة فندق غراند بارك في رام اللّه. فانهالت اف ـ 16 بصواريخها الثقيلة على المنطقة. وسقط صاروخ من صواريخها على بعد خمسين متراً من الطاولة التي كنا نجلس اليها لتناول الغداء.

وتحطمت واجهة الفندق المكون من ستة طوابق بزجاجها وحديدها وحجارتها على الجالسين على تلك الشرفة، التي كانت تستضيف حفلة خطوبة (يوم الجمعة) عجت بالأطفال والنساء الذين علا صراخهم على دوي صواريخ اف ـ 16 الاسرائيلية بمعجزة من عنده تعالى. وكانت النتيجة سقوط شهيد واربعة عشر جريحاً.

نعود للقول ان مبادرة الولايات المتحدة لن تعني وقف العدوان الاسرائيلي. وعلى الأمة العربية ان تبقى مستنفرة. ليس فقط لحماية الشعب الفلسطيني، بل ايضاً لمنع شارون من توسيع رقعة الاعتداء لتشمل لبنان وسورية.