«بساط الريح» العربي.. هل طار بعيدا؟

TT

بين ليلة وضحاها، وبعد عشر سنوات من تجربة يقال عنها الكثير، ها هو «بساط ريح» الفضائيات العربية، الذي استطاع المشاهد العربي على متنه خرق الحدود والاطلال على عادات وتراث غيره من ابناء أعمامه، يفاجئه بالرحيل عنه من دون سابق انذار او تحذير، تاركا له نكهة متعة لم تكتمل وحلم لم يتحقق.

ولا بأس ان لا يكتمل الحلم بمشروع اعلامي عربي دولي، على غرار تجربة الصحف الدولية العربية، لكن ما يثيرني هو بساطة وسطحية التخلي عن الملايين من المشاهدين والغياب عن البث لمناطق جغرافية رئيسية اعلاميا وثقافيا، لم يكن من السهل كسب مشاهديها. والمقصود هنا، الفضائيات العربية، التي فضلت التماشي مع تقنيات عصرها، واتبعت الانتقائية في اختيار مشاهديها بتخليها المستعجل والمطلق عن البث التماثلي (Analogue) الواسع الاستخدام لصالح نظام البث الرقمي (Digital)، الذي رغم صفاته لا يزال محصورا استخدامه في طبقة الميسورين في المنطقة العربية.

ومن كثرة سماعي تململ «عينة» من هؤلاء عن الاختفاء المفاجئ لبعض فضائياتهم (العربية) المفضلة عن شاشاتهم الصغيرة، كما هو حال تلفزيون الشرق الأوسط (MBC)، وشبكة الاخبار العربية (ANN) قبل اشهر قليلة، رحت اسأل نفسي، كما هو ربما حال الكثيرين، عن غاية هذه الفضائيات من التحول الى نظام البث الرقمي، اذا كانت ستفقد جزءا لا يستهان به من مشاهديها، الذين اصبحوا غير قادرين على التقاطها، ولا حتى متابعة مآثرها، اذ حصرت نفسها في منطقة جغرافية محددة.

فهل اصبحت يا ترى الرسالة الاعلامية، وروح العالمية التي كانت تطمح الى تحقيقها هدفا «مثاليا» يتعارض مع روح الربحية التي اصبحت تحركها كاستثمار خاص مستقل في تمويله واستراتيجيته التجارية، ليصبح التحكم في الانفاق وهاجس تحديد سوق «المشاهد الأكثر استهلاكاً» الحافز الدافع لاستمراريتها، خصوصا امام الضغوطات التي تمارسها عليها الشركات المعلنة (شركات الاعلان) التي هي بمثابة شريان الحياة بالنسبة لها؟

وللاستفسار حول هذه الظاهرة، التي لم الق لها جوابا عند الفضائيات المعنية، توجهت بأسئلتي الى خبراء في مجال الاعلام المرئي العربي لمعرفة رأيهم في ضوء تحول عدد هائل من المشاهدين، ان لم نقل جلهم، في معظم دول شمال افريقيا، الى التعويض عن الضائع، بالتقاط الفضائيات الفرنسية والايطالية والألمانية. وهنا نتوقف قليلا، لنلمس في موقف الحكومات الغربية والمؤسسات الاعلامية التي تملك هذه الفضائيات (الاوروبية) استجابتها لاستراتيجية اعلامية سعت للحفاظ على مشاهديها في هذه الدول من خلال ابقائها لنظام البث «التقليدي»، حتى وان لجأت احيانا اخرى لمزاوجته بالنظام الرقمي لمن استطاع او اصبح متعوداً عليه.

وهكذا يؤكد الخبراء الاعلاميون بأن الفضائيات التي تحولت الى البث الرقمي بصفة مطلقة، فضلت «المخاطرة» بجمهورها، بقناعة انه سيلتحق بها، وسيتبع التطور التكنولوجي في فترة وجيزة. الامر الذي لا يتوقعون حدوثه قبل سنوات عديدة نظرا للفقر وضعف دخل الفرد الذي يميز غالبية سكان منطقتنا (العربية).

وحبذ هؤلاء لو اقبلت تلك الفضائيات على استخدام النظامين معاً، (التماثلي والرقمي)، كما فعلت اخرى (الجزيرة)، التي حافظت على التماثل في بثها للمنطقة العربية وزاوجت بين الاثنين في بثها لخارج المنطقة، حيث اجهزة الاستقبال الرقمي متوفرة وبأسعار تنافسية او (منافسة).

وكما لكل شيء ثمن، فان الحفاظ على المشاهدين حيثما وجدوا من خلال استخدام النظامين (للبث)، ليس بالأمر الهين، اذ كلفة المرددات التماثلية (Transpondeurs Analogue) (بالنسبة للفضائية) لا يقل سعرها عن المليوني دولار سنويا، فضلا عن كلفة المردد الرقمي التي لا تتعدى 400 الف دولار في السنة. ولذا ستصبح الكلفة الاجمالية السنوية التي على الفضائية دفعها للوصول الى جميع مشاهديها في حدود 3 ملايين دولار او اكثر. من هنا، اذا اتينا للتحليل على مستوى الأرقام فقط، فسنجد انه لا يوجد وجه للمقارنة بين كلفة البث التماثلي والرقمي. فضلاً عن ان «الرقمي» يوفر للمشاهد نحو 400 قناة عالمية، ان لم نقل اكثر، بينما القنوات المتاحة عبر البث التماثلي لا يزيد عددها عن 40 قناة. لكن مع هذا، يبقى سؤالي المطروح آنفاً، قائماً: لماذا الاستعجال في مواكبة تكنولوجيا البث الفضائي اذا كانت ستحجب الفضائية عن الملايين من مشاهديها؟

يرد الخبراء بأن حملة التحول الى الرقمي قد بدأت عالميا، وفرضت واقعا جديدا على الفضائيات العربية عموما، لا سيما تلك المملوكة من رأس المال الخاص، بأنه لا توجد الآن خدمة اعلامية ستأتي للمشاهد العربي «من السماء» مجانا. وان هذه الذهنية لا مجال لوجودها نظرا لأنصباب الاهتمام على المردودية التجارية، ومن ثم لم يعد هناك داع او جدوى من الاستمرار في البث حتى من اراض اجنبية، كما هو الحال من اوروبا، لأن كلفة التسيير والادارة اصبحت حاليا اعلى عشرات الاضعاف من كلفة البث (الرقمي).

لكن ما لا يقوله الخبراء الاعلاميون العرب للمشاهدين الذين حرموا من متعتهم ولحظات الترفيه عن انفسهم من خلال برامج ولغة اعلامية قريبة منهم، هو حثهم على الاستمرار في امتصاص ما تجود به عليهم الاستراتيجيات الاعلامية الدولية من دون منازع لها، الى حين يصبح للاعلام في منطقتنا استراتيجية تعي من أين انطلقت والى اين هي تتجه.. استراتيجية تدرك ما لها وما عليها تجاه مشاهديها.