أيام فاتت

TT

رغم كل هذا الحماس الذي نبديه في هذه الايام لكرة القدم، فإن تاريخها عندنا لا يتجاوز في الواقع عهد الاحتلال، أي اننا مدينون بها للإنجليز. هذا ما يرويه عباس البغدادي عن أول نظرة ألقاها العراقيون على الكرة. يقول إنهم شاهدوها في معسكر الهنيدي للقوات البريطانية قرب بغداد، حيث كانت فرقهم تتبارى فيما بينهم. تعلق الجمهور بصورة خاصة بفرقة الاسبيتال (الهوسبتال ـ أي المستشفى) وفرقة أتش كيو (الهيدكوارتر ـ أي القيادة العامة).

انقسم الجمهور البغدادي لا الى سنة وشيعة كما يفعلون الآن، وانما الى أنصار الهوسبتال وأنصار الاتش كيو. وكان الطرفان في خصام مستمر كثيرا، مما أسفر عن مصادمات حادة بينهما، وأعطى صورة دقيقة للعراق.

الإنجليز يلعبون والعراقيون يتخاصمون ويتعاركون. ولكننا بمرور الزمن تعلمنا منهم لعب الكرة، الشيء الوحيد الذي تعلمناه منهم. وكان آباؤنا يصنعونها صناعة محلية من الخرق والورق ويحولون الأزقة الى استاد مباراة ينكسر خلالها زجاج النوافذ وتصفع الكرة وجوه المارة، فتطيح بعمائمهم وطرابيشهم واشماغاتهم، فينهال القوم بالشتائم على الاستعمار البريطاني الذي أفسد أخلاق الشباب وعلمهم لعب الطوبة.

بمرور الزمن، برز لاعبون جيدون شكلوا فرقا بينهم واستنجدوا باللاعبين الإنجليز حتى أصبح عدد الانجليز يفوق أحيانا عدد العراقيين. فصدر قرار بالسماح لكل فرقة باستعمال انجليزي واحد فقط. انسجم هذا مع نظام الانتداب. فكما كان على كل وزارة أن تعتمد على مستشار بريطاني واحد، جاز لكل فرقة أن تعتمد على لاعب إنجليزي واحد. لكن الجمهور لاحظوا أن فريق الجيش العراقي كان فيه لاعبان انجليزيان فثارت ثائرتهم وهتفوا بسقوط الجيش العراقي. عبثا حاول رئيس أركان الجيش ان يقنعهم بأن اللاعب الثاني غير انجليزي، بل عراقي صميم .

كل ما في الأمر انه كان أبيض البشرة أشقر الشعر. وذكر الرجل حسبه ونسبه واسمه فخري عمر.لكنهم اتهموه بأنه جاسوس لأنه يتكلم اللغة العربية بصورة جيدة. دسه الانجليز ليدمروا مستقبل كرة القدم في العراق. لكن أعضاء فريقه اعتزوا به فسموه فخري اللندني، ليس تحاشيا لاسم عمر وانما لأنه برع في تسجيل الأهداف. وكانوا يكافئونه بإعطائه برتقالتين في الاستراحة بدلا من واحدة. وعزز هذا اعتقاد الفريق المقابل بأنه جاسوس، لأن المستعمر يأخذ دائما أكثر من حصة المواطن.

لم يذكر المؤرخون ما اذا كان فريق فخري اللندني قد جاء بعدد من الاشقياء لحراسته بعد اللعب كلما سجل هدفا, ولكنهم ذكروا أن كل حكم كان يعتبر مسؤولا عن حماية نفسه، مثل وزراء هذه الأيام. ولهذا اعتاد حكام الكرة ان يأتوا معهم بعدد من المصارعين والأشقياء لحمايتهم.

والمعروف أن كثيرا من ساسة العراق فيما بعد كنجيب الراوي كانوا يلعبون في هذه الفرق، مما أعطى الحكومات العراقية هذه الصفة التي ميزتها، وهي تصريف شؤون البلد بأسلوب اللعب والنظر على العراق كملعب كرة .