وثيقة حماس: من اول غزواته كسر عصاته!

TT

حتى منظمة التحرير كانت قد مرَّت بما تمر به حركة «حماس» الآن. فقبل حسم أمرها واعترافها بكل القرارات الدولية التي تنص على الاعتراف بإسرائيل، بقيت تلعب لعبة الاختباء وراء الإصبع لفترة طويلة وبقيت تستخدم مفردات حمَّالة أوجه وتسير مواربة، إلى أن نضجت المواقف وحانت لحظة الحقيقة فاتخذت قرارها التاريخي الذي بُنيت عليه كل خطوات عملية السلام حتى الوصول الى إتفاقيات «أوسلو» المعروفة.

عندما تحدَّثتْ حركة «فتح»، التي هي العمود الفقري لمنظمة التحرير، في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي عن أهمية إقامة دولة فلسطينية على أي أرض تنسحب منها إسرائيل، ووُجه حديثها هذا بالاتهامات وبالشجب، ليس فقط من أنظمة الرفض العربية والتنظيمات التي كان تدور في فلك هذه الأنظمة، ولكن أيضاً من داخل هذه الحركة نفسها حيث برز تيارٌ متشدد، احتضنه نظام بعث العراق، ما لبث أن انشق عن التنظيم الأم وشكل بقيادة صبري البنا (أبو نضال) تنظيماً متطرفاً وإرهابياً أطلق على نفسه اسم حركة «فتح» ـ المجلس الثوري ـ.

لم تذهب منظمة التحرير، التي كانت تقودها حركة «فتح» ولا تزال، والتي ضمت كل التنظيمات الفلسطينية التي شكلت اللوحة الفسيفسائية للعمل الوطني الفلسطيني قبل ظهور حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في وقت لاحق، الى الهدف مباشرة وهي بقيت تناور وتداور وتقدم رِجْلاً وتؤخر أخرى ، وطرحت برامج تمهيدية ، من بينها برنامج النقاط الست الذي أقرته دورة المجلس الوطني التي انعقدت في القاهرة وحملت اسم «الشهيد كمال جنبلاط»، الى أن أصبح الوضع الفلسطيني في سنوات ما بعد الخروج من بيروت في عام 1982 مهيئاً للقبول بما هو ممكن، وما يحقق ولو الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية الفلسطينية.

لقد كانت عملية التمهيد للقبول بقراري مجلس الأمن الدولي 242 و 338 وما يترتب عليهما من اعتراف بإسرائيل على كل ما احتل من فلسطين قبل عام 1967 سلسلة متعددة الحلقات كل حلقة منها أفضت الى الحلقة اللاحقة وذلك الى أن انعقد ذلك المجلس الوطني الذي انعقد في الجزائر في عام 1988 والذي اتخذ قراره الحاسم الذي فتح الأبواب على مصاريعها لعملية السلام التي لا تزال مستمرة حتى الآن.

كانت تلك الليلة، التي حسم فيها هذا المجلس الوطني الذي انعقد في الجزائر في عام 1988، ليلة تاريخية. فبعد حوارات ونقاشات ومفاوضات ماراثونية اشترك فيها كل قادة تلك المرحلة من كل الفصائل الفلسطينية، تمكن صلاح خلف (أبو إياد)، رحمه الله ، من إقناع الدكتور جورج حبش الذي كان الأكثر تشدداً من بين كل زملائه ورفاقه، بأهمية إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس قرارات الشرعية الدولية.. وهكذا فقد كانت تلك اللحظة التي تلا فيها ياسر عرفات (أبو عمار) وثيقة الاستقلال الفلسطينية، لحظة عواطف جياشة ولحظة فرح كفرح من شاهد في منامه حلماً جميلاً.

الآن بدأت حركة «حماس» تسير على الطريق نفسه الذي سار عليه «الآباء المؤسسون». فكما كان ياسر عرفات يوفد الدكتور عصام السرطاوي ليقوم بجولات في العديد من الدول الأوروبية ليشرح توجهات منظمة التحرير، وليُروِّج لسياسات الاعتدال الفلسطيني، أوفد اسماعيل هنية في الآونة الأخيرة مساعده أحمد يوسف الى أوروبا، ليروِّج لفكرة هدنة العشرة أعوام التي أصبحت هدنة خمسة أعوام، وضمت بنوداً تتطابق مع توجهات وسياسات منظمة التحرير الفلسطينية.

وبالطبع فإن «حماس» تفعل الآن نفس ما كانت تفعله حركة «فتح» ومنظمة التحرير فهي تقول إن «وثيقة يوسف» هذه هي مجرد أفكارٍ أوروبية لم تناقشها ولم تقل رأيها فيها بعد والحقيقة أن هذا غير صحيح على الإطلاق فرئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية كان قد حمل هذه الوثيقة الى كل الدول التي زارها خلال جولته الخارجية الأخيرة وهو أطلع عليها، على اعتبار أنها وثيقته ووثيقة حكومته ووثيقة حركته، كل المسؤولين المصريين الذين التقاهم خلال هذه الجولة الآنفة الذكر كما أطلع عليها أيضاً قيادات قطر وسوريا وإيران.

فماذا تقول هذه الوثيقة، التي مما يثير التساؤل ان وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» التابعة لجهاز الرئاسة الفلسطيني، هي التي كشفت النقاب عنها والتي نفت حركة «حماس» في البداية علمها بها لكنها ما لبثت أن غيرت رأيها وقالت إنها مجرد أفكار أوروبية..؟!

إن أهم فقرة في هذه الوثيقة هي الفقرة التي تقول: «تشكل هذه الهدنة مرحلة يتم خلالها تلطيف الأجواء بين الإسرائيليين والفلسطينيين من أجل المضي قدماً في خطوات عملية وجدية لإقامة دولتين متجاورتين وقابلتين للحياة مستقبلاً. وسوف تعتبر هذه الهدنة، ومدتها خمس سنوات، مرحلة تحضيرية جدية نحو التوصل الى إتفاق سلام دائم مع إسرائيل، وسوف تتيح هذه الهدنة للشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني، الفرصة كي يثق كل منهما بالآخر وتحري الفرص المستقبلية ، وإذا نجحت فإنها سوف تجعل العالم الإسلامي يمنح الحكومة الفلسطينية مزيداً من الهامش والحرية، لاستشكاف سبل حلِّ الصراع مع إسرائيل بشكل أبدي».

ثم وبعد التوقف عند هذه الفقرة الهامة جداً ، فإنه لا بد من التوقف عند ثلاث ملاحظات هي:

أولاً: إن هدنة الخمس سنوات التي «ستطبق على كل إسرائيل والأراضي الفلسطينية التي أُحتلت عام 1967 والتي تلزم كل الفصائل الفلسطينية بوقف كافة أشكال العمل المسلح داخل الدولة الإسرائيلية، ووقف استهداف الإسرائيليين أينما وجدوا «ستفسح المجال أمام الإسرائيليين للتهرب من الضغط الدولي ومن خارطة الطريق، ومن كل الخطوات التي قُطعت على طريق عملية السلام قبل «أوسلو» وبعدها.. وحتى الآن.

ثانياً: لم تأت الوثيقة على أي ذكر لا للعرب ولا للدول العربية فقالت: «إنها تجعل العالم الإسلامي يمنح الحكومة الفلسطينية مزيداً من الهامش والحرية لاستكشاف سبل حل الصراع مع إسرائيل بشكل أبدي».. وهذا الكلام موجه، كما هو واضح، لإيران وليس لغيرها من أي من الدول الإسلامية.

ثالثاً: إنها تقدم اعترافاً مسبقاً بإسرائيل، وإنها تنص نصاً صريحاً وواضحاً على تطبيع العلاقات الفلسطينية ـ الإسرائيلية»، تسهيل إقامة مناطق ومشاريع اقتصادية مشتركة بين غزة والضفة الغربية وبين إسرائيل .. واستمرار العلاقات التجارية الطبيعية مع الإسرائيليين» وهذا هو المأخذ الذي كانت حركة «حماس» تأخذه على منظمة التحرير وعلى حركة «فتح» وعلى بعض الدول العربية.

إن هذه هي وثيقة حركة «حماس» التي تريد من خلالها ارتقاء منصة عملية السلام والصلح التاريخي مع إسرائيل ولعل أول إنطباع يمكن إستنتاجه بعد قراءة هذه الوثيقة قراءة متأنية هو أنها مشوشة وغير مترابطة وأنها تستجيب للرغبة الإسرائيلية في التهرب من عملية السلام التي غدت مطلباً دولياً في الآونة الأخيرة حتى بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية.

لا يوجد في هذه الوثيقة أي إلزام لإسرائيل بدفع استحقاقات السلام بعد هدنة الأعوام الخمسة المشار إليها وهي أي هذه الوثيقة تستجيب لخطة الانسحاب الأحادي الإسرائيلية التي طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي إرئيل شارون، وتبنتها حكومة أولميرت الحالية التي اضطرت للتخلي عنها تحت الضغط الأوروبي والأميركي، وتحت الضغط الدولي الذي ازداد جدية في الآونة الأخيرة.

لم تشر هذه الوثيقة الى مبادرة السلام العربية، ولا إلى أي من القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ولم تؤكد على ضرورة التزام الإسرائيليين بما تم الاتفاق عليه مع منظمة التحرير، ثم وحتى بالنسبة لحق العودة المقدس فإنها مرَّت عليه مروراً عابراً، وفي إطار فقرة تقول: «وتتمثل الرؤية الفلسطينية لما بعد الهدنة في إقامة دولة فلسطينية ضمن كافة الأراضي الفلسطينية التي أُحتلت عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ! .. بينما تتم صيانة مبدأ حق العودة».

هناك مثل يقول: «من أوَّل غزواته كسر عصاته» والحقيقة أن حركة حماس أرادت بهذه الوثيقة «تكحيل» عين الوضع الفلسطيني المصاب بالعمش، لكنها بدل ذلك «عَوَرتـْها».. وهذا يدل على الارتباك وعلى عدم الوضوح وعلى مدى المأزق السياسي الذي تعيشه هذه الحركة..!