التنوير أم الإصلاح ؟

TT

يقدم لنا الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان «الأنوار المعمية» أحدث وأطرف نقد لحركة التنوير الأوربية، ليس من منظور فلسلفي مجرد، ولكن من منطلق قراءة كاشفة لواقع العالم وأوضاعه ولعلاقة الغرب بالأمم والثقافات الأخرى، وفي مقدمتها الفضاء الإسلامي.

صحيح أن نقد فكر الأنوار ليس بالجديد على الفلسفة الغربية، بل لعله انطلق مع بداية هذا الفكر نفسه. فجان جاك روسو فيلسوف الأنوار الكبير انتبه في كتاباته إلى بعض جوانب هذا النقد، مبينا على الأخص أن دينامكية العقل والتحرر لا تستغني عن روحانية الانتماء ومتيافيزقا الأمل.

والمعروف إن هذه الحركية النقدية للأنوار قد بلغت أوجها مع كتابات نيتشه وفلاسفة ما بعد الحداثة، ومع ذلك فان تركة الأنوار ظلت ولا تزال المرتكز الأساس في الوعي الغربي الحديث، ومقوم النسق المعياري للثقافة الغربية.

ولعل الفكرة المحورية التي تلخص حركة الأنوار هي النزعة الكونية الإنسانية التي يرى دوبريه أنها أخفقت في التحول إلى فكرة كونية مقبولة، ولا تزال خصوصية ثقافية غربية، على الرغم من اندماج الفضاءات الحضارية المختلفة في المنظومة المعيارية للحداثة الغربية.

فمشروع الأنوار الذي نجح في أوربا فشل خارجها، وبالتالي لا يزال هامشيا على الصعيد الإنساني الأوسع. وإذا كانت هذه الملاحظة ليست بالجديدة بل نلمسها لدى الكثير من الكتاب، إلا أن ما يميز ملاحظة دوبريه هو انه لا يحمل الثقافات الأخرى مسؤولية هذا الاتفاق، بل يرجعها إلى مظاهر قصور ذاتي في ديناميكية التنوير ذاتها.

ويذهب دوبريه إلى القول إن رهان القرن الجديد يتمثل في التعامل مع ثلاث مناطق معتمة، خلفتها لنا حركية الأنوار هي الإيمان والانتماء والعنف.

فالفكر التنويري راهن على القضاء على المقدس بنشر العلم والتقنية، وإذكاء سلاح النقد، فإذا بالمقدس يعود في أكثر أشكاله تطرفا وغرابة، وإذا به يتأقلم مع الموجات الجديدة من الحداثة فيبلغ الإيمان الديني أوجه في كعبة العولمة (الولايات المتحدة حيث 93% من الأمريكان يؤكدون إيمانهم بالله والتزامهم بالطقوس).

كما راهن على تحرير وعي وإرادة الأفراد للخروج بهم من اسر الانتماءات الضيقة، فإذا بأنماط جديدة من القبلية ومن الخصوصيات العرقية والثقافية تعود بقوة مهددة الكيانات القومية العريقة بالتفكك.

وفي حين راهن فكر الأنوار على قدرة الدولة القومية المندمجة ذات النظام الديمقراطي المستقر على تأمين السلم الدولي وإخراج البشرية من وحشية الحروب، إذا بالحروب المدمرة والفتن الفظيعة تعصف بأمن العالم واستقراره.

فهل استنفد إذن مشروع الأنوار أغراضه؟

يدعو دوبريه في إجابته عن هذا السؤال للخروج من ثنائية التبشير بالأنوار ومحاربتها، بطرح خيار «ما بعد الأنوار» الذي هو نمط من النظرة «المضيئة ـ المعتمة» التي تتحرى رصد حركة الواقع المعاصر في جوانبها الحركية، بالحفاظ على الجوهر المعياري للتنوير بصفته حركة تحرر ونقد وعقلنة، مع التخلي عن سذاجته الآيديولوجية المستهلكة، معتبرا أن هذه المراجعة ضرورية لتطبيع علاقة الثقافة الغربية مع غيرها من الثقافات، وعلى الأخص الثقافة الإسلامية التي تكاد تحتكر واجهة الصدام مع الغرب.

ومن المفارقات المثيرة أن يتزامن كتاب دوبريه مع انبثاق اتجاهات جديدة في الساحة العربية تطلق على نفسها تيارات التنوير، ومن بينها من يرفع الشعار الإسلامي.

والمثير للانتباه هنا أن هذه التيارات تصدر عن خلفية مراجعة نقدية للآيدولوجيا العربية المعاصرة، من منظور عقلاني نقدي يستلهم القيم الليبرالية للتنوير الأوربي، وقد أصبح لبعض هذه الاتجاهات صيغ مؤسسية ثابتة، من أشهرها مؤسسة تحديث الفكر العربي، التي أعلنت في بيروت قبل ثلاث سنوات، وصدرت لها بعض المنشورات التي لا يبدو أنها لقيت انتشارا يذكر.

كان المفكران المرموقان محمد عابد الجابري وحسن حنفي قد تساءلا في حوارهما المشهور الذي أطلقا عليه «حوار المشرق والمغرب» عن منزلة فكر الأنوار في الثقافة الغربية الحديثة. وفي حين اعتبر حنفي أنه المرجعية المؤسسية للنهضة العربية الحديثة، ذهب الجابري إلى أن الإصلاحية العربية ظلت مؤطرة بالسلفية الجديدة، وان رمت إلى استيعاب الاصطلاحات الأنوارية خارج سياقها الإشكالي والنظري.

ما يمكن قوله بعد مرور عقدين على حوار الصديقين الجابري وحنفي، هو أن المشهد العربي تغير نوعيا بتأثير مضاعف من سلفية فقدت تدريجيا روحها الإصلاحية لتتحول إلى نزعة تدميرية عدمية متحجرة (يتعلق الأمر بالسلفية الجهادية الخارجة عن عباءة القاعدة)، وتحديثية فقدت نفسها الليبرالي لتتحول إلى غطاء آيديولوجي للأحادية السياسية، في حين لا يزال التفكير حول مشروع التنوير مطلبا يحتاج للتحقيق.