الصومال.. سجن الفشل الكبير

TT

ماذا يجري في الصومال، والى أين يمكن أن تقود هذه النسخة الجديدة من صراع تلبّس شارة جديدة من الإسلام السياسي، وإن بنسخة جديدة، بدخول المحاكم الإسلامية كطرف أصيل فيه، وبعد أن جذب الصراع مجددا دول الجوار لوجود ميداني عسكري، يذكر قطعا بتلك النسخة التي شهدتها الكونغو بعد سقوط نظام موبوتو عام 1997 يوم أن استقطبت حرب الكونغو الأهلية خمس دول أفريقيا بجيوشها إلى داخل أرضها، لتقف يوغندا وبورندي ورواندا مع التمرد، فيما وقفت زيمبابوي وأنجولا وناميبيا إلى جانب شرعية كابيلا، فسخر صحافي أفريقي في مجلة «نيوأفريكان» من المشهد فأسماه (حرب أفريقيا العالمية الأولى Africa First Word War) و... و... أسئلة كثيرة لا يمكن في تقديري فهمها إلا باللجوء كما يقول أهل السينما الى فتح العدسة على مشهد أوسع للوقوف على فسيفساء المشهد الصومالي الذي يقترب من كوميديا سوداء، باستدعاء حال بلد يملك كل مقومات التجانس، ولكنه غارق في حرب أهلية. (خريطة الصومال الديموغرافية والإثنية تقول لك إن نحو 9 ملايين نسمة هم عدد السكان مسلمون ينتمون بنسبة مائة في المائة إلى المذهب السني، معظمهم حنفيون، فيما تشكل العرقية الصومالية 85 % من نسبة السكان والبقية من غير الصوماليين والبانتو والعرب).

Failed State أو الدولة الفاشلة، تعبير روّج له مفكرو العلوم السياسية في الغرب، في خضم ما عرف بالحرب على الإرهاب، وذهبوا الى حد تبيان مخاطره قياسا بالتعبير الآخر الشائع المقترن بمزاعم الترويج للإرهاب، وهو تعبير Rogue State، أي الدول المارقة، مع أن الترجمة تحتمل أيضا (الدول الحمراء).

الصومال الذي غابت فيه الدولة مع سقوط سياد بري في 1991 يوم أن رحل فنبهت الإيكونومست البريطانية الى قادة رحلوا من دون أن يذكرهم أحد، وكانت عينها على سياد بري ومنقستو هايلي ماريام الرئيس الأثيوبي الذي رحل أيضا عام 1991، وكانت إشارة إيكونومست في عدم انتباه أحد لرحيلهم لإنشغال العالم بحرب تحرير الكويت وأزمة الخليج الثانية ومعها سقوط الاتحاد السوفياتي .

من يومها لبس الصومال تحديدا شارة الدولة الفاشلة، وهي الدولة التي لا توجد بها مؤسسات، وإن وجدت فهي بلا فاعلية لوجود مؤسسات موازية، لتعمق جراحه ما يعرف بحقائق الجغرافيا والتاريخ .

فمع التاريخ كانت قريحة بوش الأب وهو يطمح لتشكيل نظام جديد تال لتحرير الكويت وسقوط الشيوعية وحائط برلين، قد تفتحت على عملية (إبقاء الأمل Restore Hope) والتي تبع فيها باعلامه الأمم المتحدة بتدخل لبس هو الآخر شارة الإنسانية، فحارب الصوماليون الوجود الأميركي وغرسوا في عقل صانع القرار الأميركي كابوسا جديدا انضم الى كوابيس فيتنام والمارينز ببيروت المعروفتين، وذلك يوم أن قتلوا نحو 18 جنديا أميركيا وسحلوا بجثة أحدهم وطافوا بها شوارع العاصمة مقديشو فرحلت أميركا، ليطوف الصومال على دول الجوار في 12 جولة بحثا عن مصالحة وطنية كان قطباها علي مهدي ومحمد فرح عيديد، فلم ينجح، فيما رحلت أميركا والأمم المتحدة بدون أن تكملا أغنية إحياء الأمل، إذا لم يتركا الصومال مع إغنية جيدة تقترب كلماتها من موت الأمل.

وفي غضون فشل الدولة، كانت عين المحيط الجغرافي أيضا على تلك الدولة الفاشلة فذهب ليصفي الخلافات الثنائية على تلك الأرض. بدأ ذلك عام 1993 يوم أن علت وتيرة التوتر بين حكم الإسلاميين في السودان وبين النظام المصري، فاختارت القاهرة الوقوف مع علي مهدي، ليختار السودان ومعه إثيوبيا، وبموقف غريب من أديس أبابا، الوقوف الى جانب عيديد، الذي أعلنه مجلس الأمن مجرم حرب مطلوباً، وألغى القرار في سابقة خطيرة لاحقا.

في غضون ذلك، أفرز المحيط أيضا دولة جديدة هي إريتريا التي أعطيت كجائزة لإثيوبيا بعد الحرب العالمية عام 1952، لتضمها إثيوبيا بعد عشر سنوات، فتشتعل حرب ثوار إريتريا لثلاثين عاما، انتهت بالاستقلال عن إثيوبيا، ليدشن البلدان حربا حدودية في 1998 يعيشان مراراتها الى اليوم، فقادتهما المرارة إلى تكرار سيناريو خصومة القاهرة والخرطوم في التسعينات لتقف إريتريا مع المحاكم الإسلامية، وتقف إثيوبيا بوجود بدأ ميدانيا بجنود، وتصاعد وصولا الى حد قصف المطارات بالطيران يوم الأحد الماضي.

وهنا أيضا يتجدد مشهد كوميدي اسود، فإثيوبيا تتدخل بطلب من حكومة انتقالية جاءت بعد مخاض طويل في أكتوبر 2004 برعاية من منظمة إيقاد، ولكنها لم تتمكن من أن تحكم من العاصمة مقديشو فاختارت بيدوا لظروف الحرب، فيما تتجه عين إثيوبيا أصلا إلى محاربة الإسلام السياسي على حدودها، ولها هنا أيضا كوابيسها الخاصة (خريطة إثيوبيا الديموغرافية والعرقية تقول إن من مجموع سكان 74.7 مليون نسمة، تشكل عرقية الأرومو نحو 45 في المائة من السكان ومعظمهم مسلمون ضمن خريطة دينية تقول إن ما بين 45 ـ 50% من السكان مسلمون، وما بين 35 ـ 40 % مسيحيون أرثوذكس، والبقية وثنيون أو بلا دين) وبين الكوابيس أن الإسلام السياسي من نظام الخرطوم المجاور كان قد وضع إثيوبيا في مأزق محاولة اغتيال الرئيس مبارك في 1995، ووجوده في الصومال يمكن أن يحرض الأرومو أو حتى سكان الأوغادين، وبإثيوبيا مجموعة عرقية صومالية تصل نسبتها الى 9%.

تجدد المشهد الكوميدي الاسود هنا أن إثيوبيا تخوض حربا بالوكالة وليست لها، وكذلك تفعل إريتريا، أقرب ما يكونون من تلك الصورة الشعرية التي وضعها محمود درويش عن بيروت يوم أن قال: أدافع عن جدار ليس لي. أضف الى كل ذلك أن أميركا بكوابيسها في صومال 1993، وكوابيسها مع 11 سبتمبر، لا تريد بؤرة طالبان أخرى في أفريقيا التي شهدت كما ظللت أقول 11 سبتمبر الصغرى يوم تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام في وقت واحد يوم الجمعة 7 أغسطس 1998، أميركا تصفق سرا وجهرا لإثيوبيا، وإثيوبيا تصفق للحكومة الانتقالية، والجنرال عبد الله يوسف الرئيس الانتقالي يصفق لإثيوبيا، وفي غضون ذلك يتدفق السلاح على المحاكم وليس بوسع الدولة الفاشلة أن تحرس حدودها (طول ساحل الصومال البحري نحو 3 آلاف كيلو متر).

ونأتي لما يمكن أن تقود إليه نسخة الصراع الحالية.

الإجابة صعبة، خاصة في ضوء عدم تفكير الأمم المتحدة في العودة، وفي ضوء تعثر جهود الاتحاد الأفريقي في دارفور بالسودان والذي لا ينطبق عليه قطعا مصطلح الدولة الفاشلة، وفي ضوء بطء الجامعة العربية المعروف، وهي المأخوذة أصلا بأزمتي لبنان والعراق، وفي كلتيهما لا يزعم أحد أنها يمكن أن تقطع أرضا.

الى حين إشعار آخر، أو على الأقل الى المدى الزمني القريب، سيبقى الصومال سجينا في سجن الدولة الفاشلة كمصطلح، ولا علاقة لذلك بالطبع بشعب تبدو حالته كتلك التي قال فيها الشاعر :

وجرم جره سفهاء قوم ..

وحلّ بغير جارمه العذاب