لبنان.. الشركة

TT

لم يمر موسم أعياد على لبنان وما فيه من الخروج على ما مضى من تقاليد كالموسم الحالي، وكأنه كُتِبَ على لبنان أن يجدع انفه «نكاية» بوجهه وعلى اللبنانيين أن يتنكروا لذاتهم إكراما للغير.

أيُعقلُ أن يتحول لبنان الى مجتمع بلا ضوابط وبلد بلا حكماء في وقت يحتاج فيه، أكثر من أي وقت مضى، إلى الضوابط والحكماء؟

بمنظور واقعي، يبدو ما يجري في لبنان وكأنه بداية النهاية لتجربة عيش تعددي ديمقراطي يأنف منها جيران الجنوب

وجيران الشرق معا. فما يجري لم يعد فصلا من فصول التاريخ ـ على عبثيته ـ بقدر ما هو رواية من روايات «حكواتية» ساحة البرج سابقا: فيها من البطولات «الدونكيشوتية« أكثر مما فيها من الإنجازات العملية.

قد يأتي يوم يجد فيه اللبنانيون «حكواتيا» يروي لجمهوره قصة تبدأ، كالعادة، بكان يا ما كان.. كان في الشرق الأوسط بلد اسمه لبنان... صاغته فرنسا في العشرينات كشبه كيان.. وكيان مفصل على مقاس «الطائفة» الأكبر في ذلك الزمان عوض أن يكون على مقاس كل أبناء لبنان.

ولان أبناء هذه الطائفة، أي الموارنة، اعتبروا إبان عزّ «الأم الحنون»، فرنسا، إن نظام المُحاصَصة الطائفية ضمانة كافية للإمساك بالسلطة إلى الأبد، ربطوا وجودهم في السلطة بهذا النظام عوض أن يرسو قواعده على نظام كفاءة واستحقاق كانوا هم المرشحين قبل غيرهم للاستفادة منه على المدى الطويل. وبذلك فوتوا فرصة تحويل الكيان إلى وطن ليبقى مجرد شركة مساهمة وغير متكافئة، بين طوائفه الكبرى، ولتصبح أسهم هذه الشركة، على مر الأيام، محكومة بالتحولات الديمغرافية للمجتمع اللبناني لا التطور الحضاري والثقافي لأبنائه. فشل مشروع الدولة ـ الوطن في لبنان يتحمل مسؤوليته الجميع. ويتحمله الموارنة أكثر من غيرهم بحكم امتلاكهم منذ الاستقلال عام 1943 ولغاية أواخر الثمانينات، النسبة الأكبر من الاسهم في «شركته» وتربعهم على مدى خمسة عقود تقريبا على رأس جهاز «الشركة» التنفيذي.

خمسة عقود أهدرها لبنان «الميثاق الوطني» ـ لبنان الماروني في الواقع ـ في التناحر على المصالح الآنية لسياسييه والمكاسب الوظيفية لأبناء طوائفه متفرجا على عثرات الدول العربية المجاورة ونكباتها، ومنتفعا منها معظم الأحيان. وفي الوقت نفسه معتبرا أن «لبنانيته» تشكل، بحد ذاتها، حصانة كافية حيال الإصابة بأمراض المنطقة.

ويوم أدرك اللبنانيون أنهم لم يعودوا في منأى عن أمراض الشرق الأوسط وعلله... كان لبنان قد أصبح ساحة متاحة لتصفية حسابات الأنظمة العربية خارج حدودها ومكبا لنفاياتها.

مع ذلك اتاحت «حرب الآخرين» على أرضهم فرصة نادرة لوضع حجر الأساس للبنان الوطن، أي فرصة «اتفاق الطائف»، فأهدروها بعودتهم الى مفهوم «الشركة اللبنانية» وفي حصر تطلعاتهم المستقبلية بإعادة توزيع ملكية أسهم «شركة لبنان المتحدة»، وفق حصص جديدة متجاهلين أولى بديهيات مبدأ الوحدة الوطنية الحقيقية أي تساوي جميع اللبنانيين في الحقوق والواجبات كائنا ما كانت انتماءاتهم المذهبية.. فكان أن عوموا مفهوم «الشراكة» بين اللبنانيين على حساب الشركة المفلسة. من المكابرة إنكار أهمية اتفاق الطائف في إطاره الزمني وجدواه في إطاره السياسي. ولكن تكريسه لمواطنية الشراكة، وبنصوص دستورية هذه المرة، لم يطح فقط بفرصة إقرار مفهوم المساواة بين كل أبناء لبنان بل فتح باب المساومة عريضا على حصص الطوائف في «لبنان الشركة».

من اتفاق الطائف خرجت «الشركة اللبنانية» العتيدة سالمة، وإن بمعادلة جديدة.. واللبنانيون جميعا مهزومون. وإذا كان اتفاق الطائف قد أدى خدمته الأجل في وقف الاقتتال اللبناني وفي المساهمة ببسط سيطرة الدولة على كل أراضيها فإن الاستقرار الذي رعاه في لبنان ارتبط، إلى حد كبير، باستقرار «المؤسسة العربية» في المنطقة وتظلل بفيئها إلى أن تفاقمت تحديات المنطقة وساهم الخلط الاميركي بين المقاومة والإرهاب، وفشل مساعي التسوية الفلسطينية وظهور مفهوم «المقاومة الإسلامية» المدعومة من إيران إلى تراجع دور «المؤسسة العربية» كعامل استقرار في الشرق الأوسط لصالح التيار الإسلامي القائم أصلا على قلب المعادلة «المؤسساتية» في المنطقة.

بعد أن فشل مهندسو «الميثاق الوطني» ومن بعده «اتفاق الوفاق» في تجاوز ذهنية المحاصصة الطائفية في مفهومه للكيان اللبناني... هل يلام شيعة لبنان اليوم إن تصرفوا في عهد الاستقلال الثاني كما تصرف الموارنة في عهد الاستقلال الأول؟

إذا كان ثمة مبرر لحزب الله في مطالبته بحصة اكبر للشيعة في «الشركة اللبنانية» فالذريعة يتحملها كل من ارتضى منذ أيام الاستقلال الأولى أن يبقى لبنان شركة مساهمة محدودة طائفيا، وبالتالي كيانا جغرافيا لا وطنا حقيقيا لأبنائه.

ولكن الفارق الكبير بين مطلب الشيعة في ظل الاستقلال الثاني مقارنا بمطلب الموارنة في ظل الاستقلال الأول يبقى في أن الموارنة تمسكوا بطلب الحصة الأكبر في «لبنان الشركة» ضمانة لهم عن الاستقلال عن الانتداب الفرنسي فيما يبدو تطلع حزب الله اليوم إلى تعزيز حصة الشيعة في «لبنان الشركة» ضمانة لموقع نفوذ أوسع للوصاية السورية ـ الإيرانية على لبنان.