فرصة إسرائيل الذهبية

TT

رغم كل النجاحات البارعة التي تكاد تقارن بالمعجزات، فإن شيئاً بسيطاً جداً عجزت اسرائيل كلياً عن تحقيقه، وهو السلام مع العرب. طالما حيرني عجزها هذا وجرني في الأخير الى متاهات الفلسفة وعلم النفس وأوصلني الى الاعتقاد بأنها تعاني من نزعة انتحارية تسد عينيها وتعميها عن ملاحظة امكانات السلام مع جاراتها. لا أريد الآن أن أخوض في تاريخها المعاصر، فهذا موضوع اسهبت فيه في كتابي «تكوين الصهيونية» اريد ان اركز فقط على الفرصة المطروحة أمامها حاليا.

انها الآن في وضع المنتصر الساحق والقوة الضاربة. تؤيدها سائر الدول الكبرى وتعاملها أكبرها ـ اميركا ـ كما لو كانت جزءاً منها. ليس هناك أي امكانية بيد العرب لدحرها. يعطيها ذلك فرصة للتساهل والتعامل مع خصومها من موقع الظافر الكريم، موقع الفارس أمام ضريح أعزل. وهو امتحان لفروسيته وشمائله وأهليته.

ومن الناحية الأخرى، قلما وصل الكثير من الشعوب العربية إلى مثل هذا الوضع الذي تشعر به الآن في قرفها وبأسها من أوضاعها وأنظمتها وحكامها. ليس بيننا من لم يسمع من هذا أو ذاك من أصدقائنا وأقربائنا ومعارفنا كلمات اليأس والبرم، «يا ليت اسرائيل تحكمنا وتخلصنا مما نحن فيه». امام موجة الصمود والاصرار الشجاع على رفض التطبيع، توجد موجة الاستسلام، موجة من يقولون إلى متى نبقى نضحي بحاضرنا ومستقبلنا وثرواتنا من أجل مواجهة «الكيان الصهيوني». ربما نجد تطبيقاً عملياً وبالغ الدلالة لهذه الروح الانهزامية، في اولئك المواطنين العرب، من مثقفين وجنود وضباط، يغامرون بحياتهم من أجل الالتجاء الى اسرائيل.

الفكرة السائدة هي ان الساميين (العرب واليهود) يتشبثون بروح الثأر ولا ينسون الماضي. يقصدون بذلك ان العرب لن يغفروا لاسرائيل ما فعلته. بيد ان هناك فكرة أخرى تميز الساميين، وهي روح التطرف والتحول التي تجعلنا ننقلب بسرعة من عنفوان الكره الى عنفوان الحب وبالعكس.

يعطي ذلك اسرائيل فرصة جيدة لتطوير مثل هذا التحول بفتح صفحة جديدة قوامها التسامح والصبر والتعاطف مع شجون الفلسطينيين وحقوقهم. ما قيمة بضع مئات من الأمتار المتنازع عليها في الضفة أو غزة أمام ألوف الأميال من العالم العربي بكل اسواقه وثرواته وامكاناته المفتوحة للاستثمار؟ ما قيمة بئر صغيرة تنتزع من أهل قرية بدوية في النقب أمام كل هذه الأنهار الدافقة بالمياه في الدول المجاورة؟ لمَ تفكر تل أبيب بشراء الماء من تركيا ونقله المكلف بالبواخر بدلا من التعاقد السلمي مع جيرانها الأقرب إليها؟

يتحدثون عن الذكاء اليهودي. أين هو الذكاء في هذه السلسلة من الحماقات التي ترتكبها اسرائيل في تعاملها مع العرب، وفي هذا الجري الهستيري والبارانوئي وراء منجزات المدى القصير والمدى الآني على حساب استراتيجية المدى البعيد، استراتجية الاندماج بالمنطقة والتحول الى قاعدة تغذيها بعلومها وتكنولوجياتها وأموالها وأفكارها وتحول سكانها الى أصدقاء بدلا من اعداء؟

لقد حلم المثاليون من الصهاينة بأن تصبح الدولة اليهودية قاعدة لنقل روح العصرنة والمدنية والديمقراطية والاشتراكية لسكان الشرق الأوسط. لقد دمر الصهاينة «العماليون» هذا الحلم. ولكن للأحلام طريقتها العجيبة في غزو الواقع. ولا بد ان يأتي ذلك اليوم الذي يكتشف فيه الذكاء اليهودي هذا الحمق الاسرائيلي في غرس روح النقمة والثأر والكره في نفوس الفلسطينيين والعرب عموماً بدلا من روح التعاون والتفاهم والمنفعة المتبادلة.