هؤلاء (المتطوعون) بالذل للعدو .. من هم؟

TT

ما الضرورة؟

الضرورة هي: الأمر او الشيء الذي اذا لم يفعله او يباشره المرء او الدولة، هلك او هلكت.

فهل استند المهرولون الى العدو، المحتل لفلسطين، المتهافتون عليه بلا كرامة، ولا ضمير، ولا عقل راجح، هل استندوا الى ضرورة ضاغطة؟

لا.

بل هم قوم (متطوعون) بالمذلة والهوان، يريقون كرامتهم القومية والدولية، في شوارع الذل دون ضرورة ملجئة.. هذا اذا صح: ان الكرامة تبتذل لهذا السبب او ذاك. فالانسان او الدولة (كيان معنوي) في الأصل. وليس المظهر المادي ـ بشتى مرافقه ـ الا خادما للكيان المعنوي.

وَمَنْ هؤلاء المتطوعون بالمذلة والهوان؟

أهم عرب؟

إن العربي ـ حتى في جاهليته ـ كان يقول:

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الذل فينا.

والترجمة السياسية لهذه المقولة هي: ان عمرو بن كلثوم يقول: لو ان العالم أطبق ـ مكرها او متطوعا ـ على الهوان، وأجمع على الذل، فإنا نحن العرب نخرج على هذا الهوان، ونأبى ان نقر الذل فينا (قرار بمعنى الرأي، او التمكين، او الاقرار).

هل هؤلاء مسلمون؟

ان الشرط الأول للمسلم هو: ان يجأر بتوحيد الله.. ومن خصائص التوحيد وثمراته الحلوة المشبعة المروية: العزة الوطيدة الراسخة الرافعة للرأس والهامة أبداً. ولذلك ارتبطت العزة بتوحيد الله في غير موضع من القرآن:

أ ـ «بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا».

ب ـ «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا».

جـ ـ «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون».

د ـ «سبحان ربك رب العزة».

يوثق هذا المفهوم التوحيدي: مفهوم آخر وهو: انه من الشرك: ابتغاء العزة من عند غير الله، سواء كانت هذه العزة المبتغاة في صورة موالاة، او في صورة العزة المباشرة:

أ ـ «مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون».

ب ـ «واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً».

واهتداء بالمفهومين التوحيديين: الموجب والسالب، لا يوالي الموحدون الحقيقيون، الآخر، ولاء يجرح التوحيد ويفسده، ولا يطلبون العزة من عند غير الله.. وهذه هي الحرية الحقيقية المنبثقة من عقيدة التوحيد، لا المنبثقة من فلسفات ملتاثة بمفاهيم شركية، في هذا المعنى او ذاك.

وليس يخلو تصرف المهرولين نحو الصهيونية، المتهافتين على زبانيتها ورموزها، لا يخلو تصرفهم من حجج، ولكنها حجج واهية، لأن الذي يجافي الحق والعدل، لا يبوء إلا بحجة هزيلة داحضة لا تسوغ موقفا، ولا تقنع احدا، ولا تحفظ شرف صاحبها.. ولقد انبأنا الله بأمثال هؤلاء، كما انبأنا بـ(علل) مواقفهم، وذلك في نص محكم هو قاعدة أساسية في الفكر السياسي الموحد، وفي العلاقة مع الآخر الشانئ: «فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ان تصيبنا دائرة فعسى الله ان يأتي بالفتح او أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين».

وكلمة (يسارعون) في الآية تدل على الهرولة والانكباب والتهافت والخفة والسرعة الغريبة.. وهذا من دلائل الإعجاز في وصف السلوك البشري. ولا شك ان اللفظة القرآنية: وصف لحالة اقوام كانوا يعيشون إبان التنزيل القرآني. بيد ان الوصف ينطبق على كل حالة مماثلة، ومنها حالة المتهافتين على الكيان الصهيوني اليوم، المسارعين في هواه ورضاه!! ما علل مواقف هؤلاء؟.. هي علل ثلاث:

1 ـ العلة الأولى هي: المرض العقلي والقلبي (العقل والقلب صنوان في القرآن)..: «في قلوبهم مرض».

2 ـ العلة الثانية هي: الخوف الشديد من العدو، او المبالغة في تصوير قوته ونفوذه. فهم يخشون اذا وقفوا موقفا حقا عادلا مستقلا موحدا نزيها: ان تنزل بهم المصائب، وتفوت عليهم المصالح: «يقولون نخشى ان تصيبنا دائرة».

3 ـ العلة الثالثة ـ الناشئة عن هاتين العلتين ـ: انهم يوصدون أبواب الاحتمالات والخيارات كلها، ويبقون على باب واحد فحسب وهو باب اليأس الذي لا يدلف اليه الا كل ذليل مهان.. مع ان ابواب الاحتمالات الاخرى مفتوحة: «فعسى الله ان يأتي بالفتح او أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين».. وعسى في وعد الله يقين، اي ان الله سيأتي بالفتح في يوم ما، فإن الله حين يعد ينجز وعده، إذ لا مكره له سبحانه. وهذا واقع يصدقه ويوثقه التاريخ، فلو اوصدت ابواب الاحتمالات الحسنة حين اجتاح التتر العالم الإسلامي.. وحين غزا الصليبيون بيت المقدس، وجعلوا شوارعه وحواريه وساحاته بركاً تموج بدماء المسلمين.. وحين احتل المستعمر الغربي معظم بلاد المسلمين.. لو اوصدت ابواب الاحتمالات الحسنة، والفرص الواعدة في تلك الحقب، لما هزم المسلمون التتر، والصليبيين، ولما تحرروا من الاستعمار.. ونلحظ في الآية: أن الله تعالى قد نكَّر الأمر من عنده فقال «أو أمر من عنده» لكي يرسخ في وعي المسلمين ويقينهم: أن ابواب الاحتمال والأمل والاستبشار بالمستقبل واسعة جدا. وبدهي ان ذلك كله لا يلغي الأخذ بالأسباب، إذ الأسباب ـ المعنوية والمادية ـ شرع من شرع الله.. والأخذ بهذه الأسباب شروط لا تنفك عن النصر، وتفريج الكرب، واستعادة التفوق. ويقتضي المقام: سطورا اضافية عن العلة الأولى وهي: المرض القلبي والعقلي.

ان من أهداف المؤسسة الصهيونية الاستعمارية في الوطن العربي، بل في الانسان العربي: (تكوين عقلية متصهينة).. وهذا هدف توصلت اليه (الصهيونية الجديدة) التي ينادي بها (شمعون بيريز) في كتاباته ـ ومن أمثال ذلك، كتابه: الشرق الأوسط الجديد ـ كما ينادي بها غيره من قادة الصهيونية العالمية. فمن الاجتهاد الصهيوني الجديد: ان التوسع الجغرافي مؤجل الى يوم تنضج فيه الظروف والأحوال العامة: الاقليمية والدولية. والى ان يحين ذلك الوقت ينبغي ـ كما يقول هذا الاجتهاد ـ ان تكون هناك بدائل لا تقل اهمية عن التوسع الجغرافي، ان لم تكن هي المقومات الضرورية له.. ومن هذه البدائل (التغلغل السلمي) في الوطن العربي: أي التغلغل الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والاستخباراتي والمعلوماتي.. الخ. ومن أهم البدائل في هذا الاجتهاد: (احتلال عقول عربية بفكر صهيوني)، اي ايجاد أناس جلدتهم عربية، وألسنتهم عربية، وأسماؤهم عربية، ولكنهم يفكرون بطريقة صهيونية، ويتصرفون لمصلحة الصهيونية.. ومن هؤلاء: آحاد، وجماعات، ودول.

ويبدو ان المؤسسة الصهيونية قد تقدمت خطوة نحو هدفها في تكوين (عقلية عربية متصهينة). ومن أدلة ذلك وعلاماته: الهرولة السياسية نحو العدو.. والمناداة بـ(ثقافة السلام): ثقافة مودة عدو لا يزال يحتل الأرض، ويذل الأخ، وينتهك حرمة المقدسات.. ونقد الصلابة السياسية الواجبة بحجة ان هذه الصلابة تضيع فرصاً ثمينة «!!».. والمساواة بين ظلم الكيان الصهيوني وإرهابه وبين حق الفلسطينيين في المقاومة.. وتبني المفهوم الصهيوني للسلام وتسريبه للرأي العام العربي وترويضه على تقبله.. وتفريغ ضمير الأمة من أعظم وأجدى رصيد وهو: رصيد العقيدة وما تقتضيه من عزة وتحرر وسيادة حقيقية وغيرة على المقدسات وتصميم على عدم التفريط فيها.

ثم من هم اولئك حقيقة؟.. أهم ناس من الناس؟

ان الله اودع الكرامة الاصلية في بني آدم جميعا: «ولقد كرمنا بني آدم».. وبدافع من هذه الكرامة الفطرية، نهضت شعوب غير مسلمة في جملتها لكي تقاوم الظلم والاحتلال والعدوان. فعل ذلك: أهل جنوب افريقيا، والهنود، والفيتناميون، والأمريكان، والصينيون، والروس.. و.. و.

فلماذا يريد اصحاب (العقلية المتصهينة): ان يكون العرب والفلسطينيون أدنى انسانية من الهنود، والفيتناميين، وأهل جنوب افريقيا، وسائر شعوب الأرض؟

ثم لماذا يريد هؤلاء ان يكون العرب والفلسطينيون ادنى درجة من الغربان، والنمل.. فالغراب شعر بمسؤوليته نحو اخيه في ساعة الحرج والعسرة، فطفق يبحث في الأرض ليحفظ كرامة اخيه بدفنه (والشاهد هنا هو مضمون التضامن لا صورته).. والنملة شعرت بمسؤولياتها نحو قبيلتها، فسارعت الى تنبيه قومها الى خطر الاجتياح، «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون».

وإذا تجرد اولئك من نخوة العروبة.. وعزة الاسلام.. والكرامة الانسانية العامة.. ومن الغرائز الفطرية في الغربان والنمل فمن يكونون إذن؟

إن سلوك هؤلاء مملوء بالمخاطر الجسيمة، وليس من العقل ولا المصلحة ولا من السياسة: التقليل من المخاطر المترتبة على تصرفاتهم ومواقفهم:

أ ـ ان العدو الصهيوني يقتل الشعب الفلسطيني ويبيده ويحتل أرضه، كما يحتل ارضا في سوريا ولبنان.. وبسط الوجه، ومدّ اليد له تعاون معه على الاثم والعدوان. فان من يعين الظالم ولو ببسمة او كلمة يأخذ حُكْمه: «ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار».

ب ـ ان العدو يقترف افظع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني ثم يركض في العالم، ويدور حوله من أجل تجميل وجهه.. والمتهافتون العرب على الكيان الصهيوني ـ في هذه الصورة او تلك ـ إنما هم موظفون نشطون في حملة العلاقات الصهيونية العالمية هذه، اي انهم متطوعون في تجميل الوجه الصهيوني القبيح، بدليل ان المؤسسة الصهيونية تستثمر تهافتهم لكي تقول: انظروا، إن عربا من العرب يوادوننا. ولو كنا سفاحين كما تصورنا الدعاية العربية، لما أقبل علينا هؤلاء العرب، وبسطوا لنا يد المودة ووجهها.

جـ ـ ان هذا التهافت المستمر ينشئ مناخا مواتيا لاختراق اسرائيلي واسع النطاق: اقتصادي وسياسي وثقافي وأمني. وهذا الاختراق خطر على الأمن القومي العربي كله.

د ـ ان هذا التهافت قرينة تشير الى ان المؤسسة الصهيونية قد مكنت من إنشاء (قواعد نفوذ) لها في الوطن العربي.. وإلا فلِمَ الاصرار المستميت على التطبيع والود، وتحدي الوعي العربي العام؟

هـ ـ ان هذا التهافت، جرى بين يدي الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية الدول الاسلامية الذي ينعقد اليوم: (السبت).. جرى في هذا الإبان بقصد إحداث مزيد من الفتوق في موقف العالم العربي من الصراع مع العدو في المنطقة.. ومن هنا ينبغي ان تظفر مواقف الدول المناهضة للتطبيع في هذا المؤتمر، ينبغي ان تظفر بتحية خاصة، وتقدير جزيل، ومساندة قوية عامة: شعبية ورسمية.