كرة التحرير: من لبنان.. إلى الجولان والقدس

TT

الذكرى الأولى لانسحاب جيش الاحتلال الاسرائيلي من لبنان في 25 أيار (مايو) اعادت الى ذاكرتي مرحلة جلاء جيش الانتداب الفرنسي عن لبنان في الاربعينات.

في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، ومع انتهاء الانتداب الفرنسي، تحقق الاستقلال الأول بفضل نضال اللبنانيين وتوحدهم حول رئيس الجمهورية اللبنانية في حينه بشارة الخوري الذي استحق لقب «بطل الاستقلال».

وفي العام المنصرم، ومع الانسحاب الاسرائيلي، تحقق الاستقلال الثاني بفضل مقاومة اللبنانيين وتوحدهم حول رئيس الجمهورية الحالي إميل لحود الذي استحق لقب «بطل التحرير».

بالطبع ظروف الحرب العالمية الثانية والظروف الداخلية الفرنسية ساهمت في نيل لبنان استقلاله الأول، كما ساهمت الظروف الاقليمية وظروف اسرائيل الداخلية في نيله استقلاله الثاني، لكن الظروف الخارجية ما كانت لتفيد لو لم يتوحد البنانيون على اختلافهم لخوض معركتي الاستقلال الأول والثاني، ولو لم يثبتوا بأنهم شعب موحد في تنوعه ومتنوع في وحدته.

ازاء وحدة اللبنانيين وتصميمهم، لم تفلح الامبراطورية الفرنسية على عظمتها ولا اسرائيل على جبروتها في البقاء في لبنان، واضطرتا على سحب جيوشهما منه مكرهتين.

والمفارقة التي لا تغيب عن ذهني انه، وباستثناء قلة مناضلة، لم يكن اللبنانيون في الاربعينات يتوقعون ان ينسحب الجيش الفرنسي تحت ضغط حركتهم، وفي التسعينات، وباستثناء قلة مقاومة، ما كانوا مقتنعين بأن اسرائيل ستنسحب نتيجة ضربات مقاومتهم. ولكن بفضل الوحدة الوطنية والمقاومة أحيا آباؤنا ذكرى الاستقلال الأول، ونحيي نحن ذكرى الاستقلال الثاني.

*** ويتكرر المشهد اللبناني على الساحة الفلسطينية حيث لا أحد، باستثناء قلة من العرب والفلسطينيين، مقتنع بجدوى الانتفاضة وقدرتها على مواجهة الآلة العسكرية الضخمة التي يديرها بشراسة أعتى قادة اسرائيل، ارييل شارون.

وفي ظل مناخ الشك والتشكيك تتعدد محاولات الالتفاف على الانتفاضة والحد من زخمها، كما كان يحصل في لبنان في مطلع التسعينات من التفاف على المقاومة لوقفها. لكن تحدي الانتفاضة الفلسطينية هو ان تستمر، كما اجبرت المقاومة الاسلامية اسرائيل على تنفيذ القرار 425 التي امتنعت عن تنفيذه طوال عشرين عاما، فإن الانتفاضة، اذا ما استمرت، ستكون قادرة على حمل اسرائيل على تنفيذ القرار 242 واقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

وتعلمنا التجربة اللبنانية مع اسرائيل، وتجارب غيرنا من الشعوب على مدى التاريخ القديم والمعاصر، ان المقاومة هي عمل دؤوب وطويل المدى وكثيرا ما يمر بحالات مد وجزر، وقد استغرق نجاح المقاومة اللبنانية زهاء عشر سنوات دفعت خلالها أكثر من ألف وخمسمائة من الشهداء المقاتلين، ودفع لبنان خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية، فما بال بعض العرب يطالب الانتفاضة الفلسطينية بأن تحقق أهدافها ولم يمض بعد على انطلاقتها سوى سنة واحدة ويشيعون بأنها لا تقدر على ان تتحمل عبء الشهداء الذين قاربوا الخمسمائة. ايماني ان شعب فلسطين، كشعب لبنان وسوريا وباقي الشعوب العربية، يتحمل كل شيء في سبيل استقلاله وكرامته الوطنية.

بالطبع الكل يعلم ان فوارق اساسية تميز الوضع الفلسطيني عن الوضع اللبناني واهمها ان الاسرائيليين معنيون بما يحدث في أراضي الحكم الذاتي والقدس وداخل اسرائيل أكثر بكثير مما يعنيهم ما يحدث في لبنان. ومما لا شك فيه ان الاسرائيليين مهيأون لتحمل خسائر اكثر لإخماد الانتفاضة مما كانوا مستعدين عليه لضرب «حزب الله».

في المقابل اشير الى ان حدود تحمل المجتمع الاسرائيلي مهما بلغت تظل اقل من حدود تحمل الشعب الفلسطيني، ولنتذكر ان ايهود باراك فاز بالانتخابات على منافسه رئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتنياهو على أساس أنه يحمل مشروعا سياسيا لتنفيذ الانسحاب من لبنان وايجاد حل نهائي مع الفلسطينيين وسوريا، وسقط لاحقا أمام ارييل شارون لأنه لم ينجز مشروعه إلا جزئيا في لبنان وعجز عن اكماله بالنسبة للفلسطينيين والسوريين. ويدرك ارييل شارون انه، اذا عجز عن اخماد الانتفاضة الفلسطينية، فإن مصيره لن يختلف كثيرا عن سلفيه الليكودي بنيامين نتنياهو والعمالي ايهود باراك، وان المجتمع الاسرائيلي سيرتد عن المتشددين ويصوت لصالح المعتدلين.

من هذه الزاوية يعمل ارييل شارون على استباق اعلان عجزه عن طريق نقل حربه مع الانتفاضة الى حرب مع السلطة الفلسطينية، ونقل حربه مع «حزب الله» الى حرب مع سوريا، في محاولة منه للابتعاد عن النموذج اللبناني وتحويل مجرى المواجهة من «حرب العصابات» التي لم يقدر الجيش الاسرائيلي على احتوائها في لبنان ولا في فلسطين الى «حرب كلاسيكية» بين جيوش نظامية، لذا نراه يضرب مقرات السلطة الفلسطينية انتقاما لعمليات الانتفاضة في الشوارع، ويهدد بضرب القوات السورية في لبنان ردا على عمليات «حزب الله» على الحدود. انه يريد تغيير قواعد اللعبة تحت طائلة الخسارة.

والحقيقة ان مرد نجاح «حزب الله» في لبنان هو معرفته لقواعد اللعبة الدولية والتزامه بها كما حصل في «تفاهم نيسان» في العام 1996، ويبدو ان ياسر عرفات يتقن اللعبة الدولية، ولن يكون من السهل على ارييل شارون الخروج عليها. أما سوريا فتقف له بالمرصاد وتحاول منعه من التلاعب بالضوابط الدولية وتوظف ما تتمتع به من علاقات عربية ودولية في هذا الشأن.

ومثلما رعت سوريا ولا تزال «حزب الله»، فهي ترعى ولا تزال الانتفاضة الفلسطينية، فكلاهما يشكلان ورقتين رابحتين في يدها وبهما تفرض على اسرائيل ان تحترم قواعد اللعبة وان تنفذ في المحصلة القرارات الدولية وتقبل بمقتضيات السلام العادل والشامل. وبهاتين الورقتين تفرض دمشق على الادارة الاميركية ان تعيد النظر في سياستها في المنطقة بحيث تصب كل اهتماماتها على كيفية احياء مسيرة السلام، عوض ان تصب كل اهتماماتها على كيفية احياء نظام العقوبات الدولية على العراق.

بالطبع الموقف الاميركي الحالي يناسب ارييل شارون والمتشددين في اسرائيل، فهم يعملون على أساس فرض حل عسكري من دون تنازلات سياسية وبغياب أي تدخل اميركي خلال مائة يوم، لكن موقف واشنطن لا يناسب ياسر عرفات ولا سوريا ولا لبنان ولا الدول العربية المعتدلة.

ولقد مرت خمسون يوما من أصل «المائة يوم» التي حددها ارييل شارون لوقف الانتفاضة، واني على ثقة بأن الخمسين يوما الباقية ستمر والانتفاضة مستمرة. بعدها تعود كرة النار الى واشنطن التي ستضطر الى التدخل لفرض التسوية السلمية على أساس تحرير كل الجولان وتأسيس الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

كرة النار ستتحول الى كرة تحرير، كما في لبنان.