تقرير بيكر: هجوم الجبهات الست لإفشاله!

TT

شكل تقرير بيكر ـ هاميلتون، حول الفشل الأميركي في العراق، صفعة مدوية لوزيرة الخارجية كونداليزا رايس، فالتقرير يعلن في الجوهر فشلا شاملا للسياسة الخارجية الأميركية. إنه يدعو إلى معالجة القضية الفلسطينية، وحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي مع كل من لبنان وسوريا، ويدعو إلى فتح حوار مع سوريا وايران اللتين تعتبرهما الإدارة الأميركية من محور الشر. ويدعو التقرير إلى تكوين حشد عالمي عربي وإسلامي يساعد الولايات المتحدة في معالجة موضوع العراق. وإذا كان كل هذا مطلوبا، فإن هذا البرنامج يشكل سجلا لسيل النواقص في السياسة الخارجية الأميركية التي تتولى السيدة كونداليزا رايس إدارتها. يضاف إلى هذا أن شخصية جيمس بيكر ومكانته أضفتا على إعلان التقرير وزنا إعلاميا لا يستهان به. وحين جاءت استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ومن بعده استقالة المندوب الأميركي في الأمم المتحدة جون بولتون، كان المنطق يستدعي القول إن الاستقالة الثالثة لا بد أن تكون من نصيب وزيرة الخارجية.

ما حدث عمليا كان ضد هذا المنطق، فجاءت حملة الرفض الأولى للتقرير من قبل كونداليزا رايس. اندفعت إلى مقدمة المسرح وقالت إن التقرير يستند إلى منهج خاطئ، وقالت إن الرئيس لن يستسلم إلى نصائح التقرير، وأضافت أنها استدعت كل الأجهزة الأساسية الفاعلة من أجل صياغة تقرير آخر ونصائح أخرى تعرض أمام الرئيس. وبالإضافة إلى هذا كله استغلت كونداليزا رايس قربها من الرئيس، وقدرتها الجامعية على شرح الدروس له، ولعبت باتقان دور الزوجة التي توسوس للزوج بنعومة في «حديث الوسادة» الشهير.

خلاصة الحملة المضادة التي بلورتها رايس أمام الرئيس، تقضي بنصيحة أساسية يظهر فيها استعداده للتعامل مع التقرير باهتمام، أي أن يعلن أنه سيطلع على التقرير وسيدرسه، أما القرار فهو في النهاية له وليس لما ورد في التقرير من نصائح. ثم أن يبرز الرئيس بعد ذلك شيئا من التواضع من امتصاص الحملة الإعلامية التي رافقت إعلان التقرير، ومن ذلك قوله لأول مرة «إن أميركا لم تنتصر في العراق»، على أن يضيف بعد ذلك «إن أميركا ستنتصر». أما البند الثالث في خطة رايس المضادة، فهو المبادرة إلى تحريك جملة من السياسات، وعلى امتداد ساحات المعارك كلها، لتحقيق ما يمكن اعتباره إنجازات ونجاحات لسياسة بوش وإدارته، ومن أجل أن يظهر الرئيس ناجحا وليس فاشلا. وتحت هذا البند يمكن أن نسجل ست هجمات أميركية تمت تقريبا في وقت واحد.

الهجوم الأول يتم في الصومال، ومن خلال الاستعانة بالجيش الإثيوبي على غرار الاستعانة بالجيش الإسرائيلي في حرب لبنان. وقد تمثل الدور الأميركي في هذه الحرب بتقديم المساعدة الفنية الحساسة للقوات الإثيوبية المحتلة، ومن خلال طائرات المراقبة والاستطلاع التي تصور كل ما يجري على الأرض، ثم في تقديم المساعدة السياسية من خلال تعطيل مناقشات مجلس الأمن، وتعطيل صدور قرار يدعو إلى وقف المعارك وإلى انسحاب الجيش الإثيوبي، وهو الأسلوب نفسه الذي عملت بموجبه الولايات المتحدة أثناء حرب لبنان. لقد كان انتصار المحاكم الإسلامية ضربة لأمراء الحرب الصوماليين المدعومين من واشنطن، وركزت الحملة الإعلامية الأميركية ضد المحاكم على القول إنها امتداد لتنظيم القاعدة، وذلك من أجل كسب تأييد الرأي العام الأميركي، وهذه فرية إعلامية ستتكرر في أكثر من ساحة تتعرض للهجوم الأميركي الجديد.

الهجوم الأميركي الثاني يتم (يتجدد) في العراق، ومن خلال التركيز على ضرب القوة الشعبية والعسكرية التي يمثلها مقتدى الصدر، الذي يبدو أحيانا صديقا لايران، وأحيانا صديقا لحكومة المالكي، ويبدو في أحيان أخرى متمردا على الاحتلال الأميركي. ويترافق هذا الهجوم العسكري مع تحريك الخطة الأمنية للسيطرة على مدينة بغداد، وهي الخطة الرابعة بعد فشل الخطط الثلاث الأولى، كما يترافق مع تحريك قرار إعدام الرئيس السابق صدام حسين مع كل ما قد يمثله ذلك من تحد لمشاعر عراقية يقوم فيها جيش احتلال بإعدام رئيس دولة، ومع كل ما قد يمثله ذلك من حذر عربي تجاه هذه السابقة التي قد تتكرر في أمكنة أخرى.

الهجوم الثالث يتم في فلسطين، وهو هجوم متشعب الأهداف والنوايا، ويتم تحت ستار سياسي، وكأنه استجابة لما يريده أهل المنطقة، ولكنه لا يفعل سوى تعزيز المنهج الإسرائيلي. فقد كثر الحديث مؤخرا، وبخاصة في الإعلام الإسرائيلي، عن خطة سلام أميركية جديدة، تعدها كونداليزا رايس التي ستحضر بنفسها إلى المنطقة للإعلان عنها وإطلاقها. وما يتم الإعلان عنه ليس خطة جديدة على الإطلاق، بل هو نشاط متجدد من أجل تكريس الوقيعة بين الفلسطينيين، ومن أجل طرد حركة حماس من الحكم. تركز رايس في هذه الخطة على:

أولا: أن تقوم حكومة ايهود اولمرت بخطوات تخفف عبء الاحتلال وقساوته على المواطنين الفلسطينيين، من نوع إزالة 27 حاجزا للتفتيش من أصل 270 حاجزا وربما أكثر. ومن نوع دفع 100 مليون دولار من أموال الفلسطينيين المجمدة لدى إسرائيل، ولكن بشرط أن تدفع هذه الأموال للشركات الإسرائيلية التي تغذي الضفة الغربية وقطاع غزة بالماء والبنزين. ومن نوع تشكيل لجنة لدراسة معايير الإفراج عن بعض الأسرى. وهذا هو كل ما تمخض عنه لقاء عباس ـ اولمرت قبل أيام.

ثانيا: ستقوم رايس عند حضورها بإثارة ضجة كبيرة حول موضوع عودة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات، وهي في الحقيقة ليست مفاوضات بل سعي لفرض تطبيق «خريطة الطريق» التي تدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية «مؤقتة» على 42 % من الأرض، أي أراضي الحكم الذاتي (مناطق أ + ب)، ولا تتمتع هذه الدولة المؤقتة بالسيادة بل تكون لها «ملامح سيادة»، وهو أمر يرفضه حتى الرئيس محمود عباس، الذي يصر على ضرورة بدء التفاوض حول قضايا الحل النهائي، ويقترح من أجل ذلك «قناة تفاوض خلفية غير معلنة ولكنها غير سرية» حسب تعبيره. وبينما تستعد رايس لهذه الجولة السياسية تواصل إسرائيل فرض الحل المنفرد من جانب واحد، والعنوان الرئيسي لهذا الحل هو جدار الفصل العنصري، وضم ما يحتويه من أراض جديدة إلى دولة إسرائيل، والذي كانت آخر ملامحه العمل على ضم أراضي خمس قرى فلسطينية محيطة بمنطقة قلقيلية (بسبب قربها من العمق الإسرائيلي)، ودعوة أهلها إلى ما تسميه إسرائيل (التهجير الطوعي) إلى مناطق تقع خلف الجدار. وهكذا تقوم إسرائيل بمصادرة أراضي الفلاحين، ثم تدعوهم إلى الهجرة لكسب الرزق في مكان آخر، وتسمي ذلك (هجرة طوعية)، وتصبح هذه الهجرة جزءا من الدولة المؤقتة التي تقترحها خارطة الطريق الأميركية، والتي هي في جوهرها تنظيم للحل المنفرد الإسرائيلي.

أما الهجمات الثلاث الأخرى فهي تتم تجاه لبنان وسوريا وايران. في لبنان تواصل واشنطن علنا التدخل في الشؤون اللبنانية الداخلية، فتعلن دعمها لفريق ضد آخر، وتصر على تلخيص قوى المعارضة بأنها «حزب الله» فقط، متناسية الطيف السياسي الواسع الذي تتشكل منه. وفي ما يخص سوريا تواصل واشنطن التحريض ضدها، وتدفع اولمرت إلى الإعلان عن رفضه للتفاوض معها، وبالضد مما يدعو إليه تقرير بيكر، كذلك بالضد مما يدعو إليه فريق إسرائيلي ينطلق في موقفه من مصالح إسرائيل التي لا تلتقي مع الأجندة الأميركية. ويترافق ذلك أيضا مع قرار إسرائيلي بتوسيع الاستيطان في الجولان. أما معركة واشنطن ضد ايران فهي ملء السمع والبصر، وتشهد كل يوم تصعيدا جديدا، يبدأ من قرار مجلس الأمن بمقاطعتها، وينتهي بالحشد العسكري حولها في مياه الخليج، حيث تتوافد حاملات الطائرات منذرة باحتمال الحرب.

إن هذه الهجمات الست التي تشهدها المنطقة، تتم كلها تحت عنوان: مواجهة المخطط الايراني، وهو مخطط يقول أصحابه إنه يضم ايران وشيعة العراق وسوريا وحزب الله وحركة حماس. وبغض النظر عن أخطاء السياسة الايرانية وملامحها الطائفية في العراق فإن هذا المخطط الايراني الشامل هو مخطط متخيل، تحرض عليه إسرائيل، ضد احتمال، مجرد احتمال، أن تمتلك ايران المعرفة العلمية لإنتاج قنبلة ذرية، تنزع من إسرائيل تفردها بامتلاك هذا النوع من السلاح، والذي اعترف اولمرت رسميا بامتلاكه. ويهدف التركيز إسرائيليا على دور ايران هنا إلى تصوير الصراع العربي ـ الإسرائيلي على أنه أصبح صراعا دينيا، وليس صراعا حول رفض احتلال أراضي الغير، كما يسعى إلى نزع صفة التحرر الوطني عن حركة حماس وإدراجها في صيغة الحركات الإرهابية، ويسعى أيضا إلى نزع الصفة نفسها عن حزب الله، وتحويله إعلاميا من حزب مقاوم إلى حزب طائفي فقط.

إن الحرب الدينية التي يمثلها الإرهاب، هي ما تريد إسرائيل وصم الجميع به، من أجل أن تضع نفسها في سياق واحد مع حرب الولايات المتحدة الأميركية ضد الإرهاب، لتؤجل كل ما هو مطلوب منها في سياق إنهاء الاحتلال، أو الاعتراف بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.