المشهد الأخير

TT

ماذا كان يشبه مشهد الرئيس العراقي السابق أمس والجلادون الضخام يلفون عنقه بحبل غليظ؟ كان يشبه «وجبات» المعدومين، الذين تدلت أرجلهم في ساحات بغداد العامة والناس يجلسون تحتها يأكلون ويغنون في نزهة العطلة. كان يشبه آلاف المعارضين وطالبي الحرية في العالم العربي، الذين أرسلوا إلى الموت، كان يشبه الفارق بين الحياة والموت، اللذين بقيا في العالم العربي من دون تعريف. إنهما واحد في بلاد العرب. يرسل الحاكم خصومه إلى الموت جماعات زارعا الرعب في قلوب مواليه. الخوف هو القاسم الوحيد المشترك بين الناس. الفرح ممنوع إلا في الهزج للرئيس. كنت أتمنى، والرجل في القفص المذل، أن يعاد في العالم العربي تعريف الموت والحياة، الشجاعة والجريمة، الوطنية فقط بالاستحقاق، والخيانة فقط بالارتكاب، وان يعيد العرب، وقد رأوا صدام حسين سجينا ومتهما، ثم مدانا، تعريف السجن السياسي والجريمة السياسية والشرطة السياسية، فلا يعود البشر كتلا من الخائفين والضامرين الشر والثأر، حتى إذا ما سنحت السانحة، تبين أن الديكتاتورية لم تكن تعلم القانون بل الرعب، ولم تكن تحقق الأمن بل توسع السجون، ولم تكن تقدم للناس مستقبلها، لأنها ألغت ماضيها وحاضرها وجعلتها بلا أي هوية أو عصب، سوى هوية الخوف من الشرطة وطائرات الهليكوبتر المزودة بمدافع رشاشة.

يكفر الذين يقولون إن فلتان العراق اثبت كم هو في حاجة إلى ديكتاتور، إذا كان هذا الفلتان القاتل قد اثبت شيئا ما، فهو أن القمع يولد الفوضى، والسجون تولد القتلة، والحروب الخارجية الدائمة، تولد حروبا داخلية مستديمة.

لذلك كان على الأنظمة والشعوب العربية أن تقف وتتأمل، ولن يضرها القليل من التفكير، ولا القليل من العطف، ولا القليل من المشاعر حيال الضعفاء والمساكين واليائسين ومشردي الأمة في كل مكان. إن العراقيين الذين هجروا بلدهم منذ الحرب يزيدون على 5 ملايين، أي لبنان بأكمله، وتصوروا حال الذين لا يقدرون على الهجرة ولا على البقاء ولا على العيش، وهم في الوقت نفسه لا يريدون أن يصبحوا رقما متنازعا عليه في برادات الموتى: هل هم نصف مليون حقا أم أقل أم أكثر. بدل هذه المحاكمة الضئيلة والخالية حتى من تسالي محمد أمين المهداوي، كان يجب أن يحاكم صدام حسين في أصول الحكم. في ضوابط القانون. في الحقوق المولودة للناس، في واجبات الدولة. في مسؤولية الحكومة ليس تجاه الرئيس، بل تجاه الناس، تجاه أهلهم وأولادهم. في مسؤولية الحاكم في عدد الأرامل والأيتام ومقطعي الأوصال.

مشهد صدام حسين كان فظيعا، مثل جميع مشاهد الموت في العالم العربي. ومشهد العرب الذين يفرحون في الجنازات كان فظيعا أيضا. ومشهد العرب الذين يرقصون في الجنازات كان متوحشا، برغم كل ما ومن فقدوا في زمن الرجل، الذي ألغى الفروقات بين كل الأشياء: بين الحياة والموت. بين الهجرة والبقاء. بين الفقر والكفاية. بين الانتصار والهزيمة، بين الحرب والسلم. لقد ألغى من حياة العراقيين كل المقاييس واستبدلها بشيء واحد هو حكمه. وجعل حياة العراقيين تمضي في ظل صورة تذكارية: رئيس بين ولديه، جميعهم يضعون المسدسات ظاهرة إلى خصورهم. حتى من تحت معطف عدي.