مطلوب تحري حقائق التطهير المذهبي في العراق

TT

يثير انتباهنا ودهشتنا ذلك الصمت الذي قوبلت به الدعوة التي أطلقها اتحاد علماء المسلمين لتشكيل لجنة تقصي حقائق عملية التطهير العرقي على الاساس الطائفي: التي يشهدها العراق الان، والتى قدر ضحاياها بحوالي مليون ونصف المليون شخص، وكان الاتحاد الذي يرأسه الدكتور يوسف القرضاوي قد اصدر بيانا بهذا المعنى منذ اكثر من اسبوع (في 24/12)، طالب فيه بتحرى ما جرى في هذا الصدد، وكشف حقائقه وخلفياته ومقاصده، بواسطة لجنة خاصة، سواء من قبل الجهات الدولية المعنية بحقوق الانسان، أو من جانب منظمة المؤتمر الاسلامي والجامعة العربية، إذ من شأن خطوة من ذلك القبيل ان تقطع الطريق على أجواء البلبلة الشديدة الرائجة الآن في العالم العربي والإسلامي، وتطفئ نار فتنة تلوح في الأفق ويعلم الله وحده المدى الذي يمكن ان تصل اليه، اذا تجاوزت شراراتها حدود العراق الى أقطار عربية واسلامية اخرى، يتعايش في ظلها أصحاب المذاهب المختلفة جنبا الى جنب منذ قرون.

لقد تناقلت وكالات الأنباء وبعض الصحف بيان اتحاد العلماء، لكن الجهات المعنية بالامر لم تتحرك وغضت الطرف عنه، بالتالي فان الحال بقي كما هو عليه، فاستمرت عمليات التطهير المذهبى، وتدفق سيل الاخبار فى العراق مفصلا في وقائعها وفظائعها، بالتالي فان البلبلة زادت في اوساط المسلمين، واستصحبت معها مزيدا من الاحزان والمرارات والضغائن.

واذا كان اتحاد علماء المسلمين قد بادر الى اصدار البيان الذي لم يسم أحدا، ولم يحدد مسؤولية أية جهة، وانما طالب فقط بالتحقق مما يجري قبل اتخاذ اي موقف، فأحسب انه بذلك عبر عن مواقف مختلف الهيئات والمنظمات المعنية بالشأن الاسلامي، باعتبار ان ما يجري هناك أمر يهم المسلمين جميعا ويزعجهم، لذلك فلعلي لا أبالغ إذا قلت أن دعوة اتحاد العلماء تمثل مدخلا عاما ورصينا للتعامل مع الملف المسكوت عليه رسميا، في حين أن الشائعات الرائجة حوله في الاوساط الاسلامية من الخطورة بحيث يتعين احتواؤها قبل فوات الاوان.

أدري ان مشكلات العراق اكبر، وان البلد كله اصبح غارقا في الدماء الآن، وان ثمة غموضا يحيط بالكثير مما يجري فيه، بعدما انفلت العيار وغاب الأمن، وأصبحت الساحة مفتوحة على مصارعها لما لا حصر له من شرور، كأن الاحتلال الامريكى هو المصدر الاول لها، لكننا اذا عجزنا عن ان نطفئ الحريق الكبير ونستأصل أصل الداء، فلا اقل من ان نعمل على تخفيف حدة البلاء، وننزع بعض اسباب الفتنة المدمرة، ليس فقط دفاعا عن فئة في مواجهة اخرى، ولكن أيضا لكي تحتشد مختلف الفئات لمواجهة الاحتلال.

يغمرني شعور بالحزن والاسى حين اجد نفسي مدفوعا الى التعاطي مع ملف السنة والشيعة، لأنني أحد الذين جاهدوا طويلا ـ منذ ربع قرن على الاقل ـ لتجاوز ذلك التصنيف الطائفي، والتعامل مع الجميع باعتبارهم مسلمين من اهل القبلة، دماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع. وخلال تلك السنوات ظللت في اشتباك مستمر مع غلاة أهل السنة الذين طعنوا في عقائد الشيعة حتى اخرجوهم من الملة، حتى زعم بعض اولئك الغلاة أنني «تشيعت»، وأورد احدهم اسمي ضمن أسماء آخرين في كتاب كان عنوانه «المتحولون». ويبدو ان الشائعة انطلت على البعض، حتى ان احد الباحثين السعوديين اهتم بالموضوع، وقدم الى القاهرة ليسألني عن صحة ذلك الادعاء، في اطار بحث كان يعده للماجستير. فقلت انها اكذوبة لا تستحق ان أنفيها، لكنني عند موقفي من احترام الشيعة، لان اعداءنا لا يفرقون بين شيعي وسني، ولان ثمة مصلحة حقيقية للامة الاسلامية فى تعاون مختلف الفرق وائتلافها في مواجهة مختلف التحديات التي تتربص بها، ناهيك عن ان الذين يكرهون الامة لا يكفون عن الوقيعة بين الطرفين، وينتظرون بفارغ الصبر لحظة انفجار الصراع بينهما.

ما خطر ببالي قط ان اخاطب الاخرين باعتباري من اهل السنة، لكنى لا أخفى أن ذلك الشعور بدأ يراودني بعد احتلال العراق، حتى قلت للدكتور ابراهيم الجعفري رئيس وزراء العراق الأسبق حين لقيته فى العراق ذات مرة، ان الحاصل في العراق ذكرنا بأننا سنة، في حين اننا ظللنا طوال الوقت نعتز بهويتنا كمسلمين فقط.

هذا الموقف ظل يتغير بصورة نسبية مع تطور الممارسات المذهبية في العراق، ولا استطيع ان اتجاهل في هذا الصدد ان الاحتلال ألقى بذرة هذه الفتنة حين عهد الى تشكيل اول مجلس للحكم الانتقالي على اساس مذهبي وعرقي، الامر الذي همش اهل السنة العرب، وفتح شهية الغلاة من القيادات الشيعية للتوغل والتوسع، والتطلع الى المزيد من الاستئثار بالسلطة والارض والثروة، وذهب هؤلاء الى ابعد حيث طرحوا فكرة «الفيدرالية» التي أريد بها إقامة اقليم شيعي كبير يضم 9 محافظات في الجنوب، تتركز فيها الثروة النفطية، ولتحقيق ذلك فان مجموعات من الغلاة، الذين انخرطوا فيما سمي بفرق الموت، عمدت الى تهديد أهل السنة في الاقليم المفترض، لضمان «نقائه المذهبي»، في خطوة لا سابقة لها في التاريخ العراقي، حيث ظلت القبائل والعشائر والزيجات تضم طول الوقت خليطا من السنة والشيعة. ولكي يحقق التهجير أهدافه، فان مختلف اساليب الترويع استخدمت فيه، حتى لم تتورع جماعات الغلاة عن قتل الاشخاص وهتك الاعراض ونهب الاموال وهدم البيوت وتفجير المساجد.

أدري ان بعض غلاة السنة لجأوا الى مثل هذه الاساليب الشريرة، ورغم ان الجدل لن يتوقف حول الطرف الذي بدأ العدوان، ومن المسؤول عن الفعل ومن الذي قام برد الفعل، الا اننا نسجل ملاحظتين في هذا الصدد:

الأولى أن فرق الموت الشيعية مدعومة عند الحد الادنى بالسلطة وبالأحزاب الشيعية الرئيسية. واستخدامها لسيارات الشرطة وأسلحتها وسجونها خير دليل على ذلك، في حين أن التي تنتسب إلى أهل السنة لا ظهر لها ولا سند. الملاحظة الثانية ان ممارسات فرق الموت وعمليات التطهير العرقي التي لجأت اليها قوبلت بصمت مثير للانتباه من قبل المراجع الشيعية العليا، في حين ان ممارسات الجماعات السنية ضد التجمعات الشيعية أدينت علنا من جانب مختلف المراجع السنية، في داخل العراق وخارجه. وفي كل الاحوال فان هذا الجدل يمكن ان تحسمه اية جهة محايدة تتولى تقصي حقائق الفتنة الحاصلة بين الطرفين.

في حدود علمي فان ما دعا اتحاد العلماء الى اصدار بيانه هو تلك الاخبار المؤرقة التي خرجت اخيرا من بغداد، والتي تحدثت عن قيام فرق الموت التابعة لمقتدى الصدر بعملية تهجير وقتل على الهوية في العاصمة. وذكرت أن هذه الجماعات مندفعة في عملية التطهير لإخلاء بغداد من السنة. وقد تحقق لها ما أرادت في شرق بغداد، وهي الان تهاجم بشدة احياء غرب المدينة، الامر الذي ينذر بسقوط العاصمة بأيديهم اذا لم يتم تدارك الامر في الوقت المناسب. وسمعت من بعض القادمين من العراق ان اهل السنة في الغرب حين صدوا هجوما من فرق جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، فان الطائرات الامريكية حلقت فوق أحيائهم في اليوم التالي، وغطت هجوما على الارض، وترتدي ثياب الشرطة عمدت الى جمع الأسلحة من البيوت، لتصبح تلك الاحياء بلا دفاعات، الامر الذي ييسر مهمة عناصر جيش المهدي في اجتياحها بعد ذلك.

لا أريد ان استرسل في التفاصيل الاخرى التي سمعتها في هذا الصدد، لكني أنبه إلى انه في غيبة جهد يبذل لتقصي الحقائق والتثبت مما يجري، فان سوق الشائعات ستروج، لا ريب، ولن يخلو الامر من مبالغات واكاذيب يطلقها هذا الطرف او ذاك. وقد نعذر أو نفهم أية تصرفات سلبية يمكن ان تترتب على الترويج لتلك الشائعات. وهو ما لا نتمناه على أي حال.

مع ذلك فثمة اجماع على ان جيش المهدي هو الذي يباشر عمليات التطهير الطائفي الجارية في بغداد الان. حتى ان وكالات الانباء اصبحت تتحدث صراحة عن ذلك. وهو ما يسوغ لنا أن نسأل من يمول مقتدى الصدر ومن أين يأتي لرجاله بالسلاح؟ ـ إنني لا اريد ان اصدق ـ ولا اتمنى ـ ان تكون طهران هي التي تدعمه، ورغم ان ثمة لغطا كبيرا في هذا الصدد، يستند الى قراءة تشي بأن لإيران بصمات في هذا الموضوع. وهو ما يحتاج بدوره الى تحرير، قبل ان تستفحل الشائعات وتتراكم حتى يتم التعامل معها باعتبارها حقائق مسلم بها.

إن إيران مطالبة بتحديد موقف صريح من عملية التطهير الطائفي الجارية، خصوصا من جانب المرشد الاعلى السيد على خامنئي، حتى قبل ان تشكل لجنة تقصي حقائق، لأنه من المهم للغاية ان تعلن القيادة والمرجعية الايرانية براءتها من الجرائم التى ترتكب بحق السنة. علما بان ايران خسرت كثيرا من رصيدها بسبب ممارسات الشيعة في العراق، بدءا بالذين تواطأوا مع الاحتلال الامريكي وأيدوه، وانتهاء بعمليات التطهير الطائفي التي استهدفت اهل السنة. حتى اصدقاءها ـ وأنا منهم ـ لم يعودوا قادرين على فهم تصرفاتها وعاجزين عن تفسير صحتها، في حين انها مقبلة على مواجهة مع الولايات المتحدة بسبب مشروعها النووي، تحتاج فيها الى كسر طوق العزلة وليس الى تعميقه وتعزيزه. علما بأن الممارسات التي نسبت الى طهران أنعشت كثيرا من التيارات السلفية المغالية المخاصمة للشيعة في العالم العربي والإسلامي حتى رجحت كفتها على التيارات المعتدلة في أقطار عدة.

اننا نبذل جهدا كبيرا لاقناع من حولنا بالتفرقة بين ممارسات الشيعة في العراق، والمواقف المشرفة لنظرائهم في لبنان. كما ندعو الى التفرقة بين التحفظ على السياسة الايرانية في العراق، وبين التورط في الاصطفاف الى جانب المعسكر الامريكي الاسرائيلي الذي يتربص بايران ويكيد لها. ونحن في هذا وذاك ندافع عن عزة الأمة وكرامتها، ولا ندافع عن طائفة أيا كانت. لكن ذلك الجهد يظل قاصرا ومقصورا اذا لم تساعدنا عليه طهران، التى اعرف انها تزخر بالحكماء وبعيدي النظر، فهل تسمع لهؤلاء صوتا؟