الدخول إلى عام 2007 من مقديشو!

TT

كنت أنوي أن يكون مقال الأسبوع كما هي العادة في مثل هذه الأيام تلخيصا لعام مضى، وإطلاله على عام قادم، ولكن حينما جاء وقت الكتابة كان العام الجديد قد ولد بالفعل؛ وحينما تأتي ساعة النشر ربما يكون الناس قد نسوا ما جرى في السنة التي مضت. وحتى نوضح المسألة فإن الأعوام والسنوات هي تفاصيل عصر بأكمله سميناه أحيانا بعصر الحرب الباردة، وأحيانا أخرى بعصر العولمة، ومنذ عام 2001 ونحن نعيش عصر أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما جاء بعدها كان محض تفاصيل وأحداث. وبدون الرجوع إلى ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم، إلا أنه أعاد تشكيل طبيعة النظام الدولي كله حول هذا الخط الفاصل، والشائك أيضا، بين الغرب ـ والبعض يقول العالم ـ والأصولية الإسلامية بأشكالها المختلفة الراديكالية والعنيفة والإرهابية والسلمية كذلك. وما حدث بعد ذلك في السنوات التالية كان سلسلة من الأحداث التي كان لها مسارح في أصقاع الشيشان وغابات الفلبين وقرب خط الاستواء في بالي، ولكن ذروتها العظمى كانت في أفغانستان والعراق عندما قادت الولايات المتحدة الهجوم الغربي مصحوبا بمشروع لإعادة تجديد وتعريف الشرق الأوسط «الكبير» أو «الواسع» لا فرق، مع تقليم أظافر ليبيا وإخراج سوريا من لبنان.

وبدون الدخول فى المثير من التفاصيل فإن عام 2006 كان سنة الهجوم الأصولى المضاد، وكما هى العادة فإن «العام» لا يرتبط بدقات أعياد الميلاد أو حفلات رأس السنة، فالسنة السياسية مرتبطة بانقلاب الأقدار، ومن المرجح أن العام ولد عندما تم انتخاب أحمدي نجاد في سبتمبر 2005، وحينما ظهر نجم طالبان مرة أخرى، وبالتأكيد عندما فاز الإخوان المسلمون في مصر بخمس مقاعد البرلمان في ديسمبر. ومع أول شهر في العام «الجديد» ـ 2006 ـ كانت حماس قد فازت في الانتخابات ودخلت الحكومة العراقية المنتخبة في أزمة تصاعد ضحاياها مع الشهور التالية حتى باتت التجربة الأمريكية كلها في العراق مجرد أشلاء، وفي إيران القريبة كانت طهران قد أشهرت عن أسنان نووية ودعاية متحدية تزيل دولا من على الخرائط وتعيد مراجعة تاريخ المحرقة النازية لليهود. ووصل الهجوم المضاد إلى ذروته عندما خاض «حزب الله» خلال الصيف حربا مع إسرائيل أعلنها نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، في الوقت الذي بدأت فيه المحاكم الشرعية في الصومال زحفها الكبير نحو الاستيلاء على العاصمة مقديشو، وفي لحظة من اللحظات بدا كما لو كان المشروع الأمريكى الغربي وحتى العالمي قد وصل إلى طريق مسدود، أما المشروع الأصولي فقد انفتحت أمامه أبواب التاريخ على مصراعيها.

وكما حدث في كل الأعوام فإن العام الجديد 2007 قد ولد حتى قبل أن تعرف أول أيامه النور، وربما كان أول مولده في ذات اللحظة التي وصلت فيها شعبية جورج بوش إلى الحضيض فاقدا الصوت الأمريكى في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، ومن ساعتها بدأت عمليات ضرب الهجوم المضاد من خلال سلسة من التطورات التي تبدو منفصلة إلا أنها كلها ترتبط بخيط استراتيجي رفيع. فقد بدا صمود الحكومة اللبنانية مدهشا وهي التي كان حزب الله وحلفاؤه يعتقدون أن السنيورة ورفاقه ليس لهم قدرة على مناطحة جماعات «مجاهدة»، وظهر بوضوح أن السيد حسن نصر الله مثله مثل كل الراديكاليين يعرف الكثير عن الخطوة الأولى، ولكن معرفته تضعف مع كل خطوة تالية. وحدث أول إجماع دولي على الشأن الإيراني عندما وافق مجلس الأمن الدولى ـ بالإجماع ـ على القرار 1727 ولأول مرة منذ وقت طويل بدت حكومة طهران معزولة ومتخبطة وتضع مكان الحركة كثيرا من الضجيج والصراخ. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها قرار من مجلس الأمن له صلة بالمعركة الدائرة، فقد كان القرار 1701 الذي أنهى الحرب في لبنان واضعا حاجزا بين حزب الله وإسرائيل، فما كان منه إلا أن ذهب إلى بيروت ويفشل فيها للمرة الثانية. وبالتأكيد فإن إعلان تقرير بيكر ـ هاملتون عن ضرورة استئناف عملية السلام في فلسطين قد خلق حركة من أطراف عربية كثيرة لدعم الرئيس الفلسطيني، وفتح بابا بين دمشق وبغداد، وحينما جلس إسماعيل هنية بعد عودة من رحلة إلى طهران على واحدة من أرصفة مدينة العريش المصرية في انتظار المرور إلى غزة فقد كان المشهد معلنا عن العجز وقلة الحيلة.

كل ذلك كان محض تفاصيل وأحداث متناثرة شهدت على أن المد الأصولي ربما فقد قوة الدفع وبدأ في المراوحة ذات المكان، ولكن أولى المعارك الكبرى التي على الأرجح سوف يولد معها العام الجديد 2007 فقد جرت قبل أن يلفظ العام القديم أنفاسه عندما نشبت حرب الصومال. والقصة الصومالية ـ كما هي العادة في البلدان العربية ـ قديمة منذ الاستقلال الذي قاد إلى استبداد زياد برى، والذي فعل ما فعله كل المستبدين، عندما هاجم أثيوبيا لخلق الصومال الكبرى فكانت الهزيمة والتراجع ومن بعدها الثورة والحرب الأهلية التي كان آخر مشاهدها ارتفاع نجم المحاكم الشرعية لكي تسيطر على الأراضي الصومالية، وتضع الحكومة المؤقتة التي تعب النظام العالمي والإقليمي في إنشائها موضع حرج بالغ. وبشكل ما بدا كما لو كان السيناريو الأفغاني يعيد نفسه، فمن جوف الحرب الأهلية الطاحنة برز تنظيم طالبان من قلب المدارس الشرعية لكي يكون أكثر قسوة ورجعية من كل التنظيمات الإسلامية «المجاهدة» الأخرى، وفي الحقيقة فإن أحدا لم يمانع ساعتها فى تنظيم ـ مهما كانت صفاته ـ يوفر الاستقرار والنظام. هذه المرة في الصومال حلت المحاكم الشرعية محل المدارس، وحل القضاة مكان الطلبة، وقامت إريتريا بالدور الذي كانت تقوم به باكستان في رعاية الحركة الإسلامية، وإمدادها بالسلاح والمتطوعين.

ومن هنا في مقديشو سوف ينطلق العام الجديد كما يعرفه أهل السياسة، فعلى نتائج هذه المعركة سوف تتلو معارك أخرى، سوف تكون مسارحها متعلقة بالمعركة الكبرى في بغداد وكابول، ولكن سوف يكون لها مسارح أخرى في غزة وبيروت وطهران وحتى في القاهرة، عندما تكشف مبادرة التعديلات الدستورية التي أعلنت قبل مولد السنة عن تعبيراتها العملية المضادة للأحزاب الدينية. وكما هو الحال في كل المعارك الفاصلة فإن الحرب الكبرى ـ العالم مع الأصولية ـ سوف يثور عليها غبار حروب أخرى بعضها محلي فقد كانت الصومال تعيش حربا أهلية طوال العقدين الماضيين تقريبا، كما أن بينها وبين أثيوبيا حروبا وأحقادا إقليمية تأخذ أشكالا متعددة. وبهذه الطريقة تصبح الحرب في الصومال ثلاث حروب في واحدة، تماما كما هو الحال في كل حروب الشرق الأوسط.

هل ما نقوله هنا أن الهجوم المضاد الأصولي قد وصل إلى منتهاه وحانت ساعة التراجع؛ الإجابة عن ذلك بالقطع لا، فكل ما نشهده هو بداية الضرب للهجمة الأصولية. وعندما يلقي جورج بوش بخطابه القادم سوف يكون فيه تفاصيل أخرى، فإذا ما قرر زيادة عدد الجنود الأمريكيين في العراق فمعنى ذلك أن اليد قد خرجت من القفاز إعلانا عن المواجهة. ولكن ذلك لا يعني نهاية القول، فإذا كنا تعلمنا من الماضي القريب شيئا فهو أن فصول ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لن تنتهي في المستقبل القريب.