العراق.. ليقف دولاب تبادل المصائر!

TT

كتبت مقالتي لهذا الأسبوع تحت عنوان «لا تعدموا صداماً». إلا أنه «سبق السيف العذل»، وانتهى الأمر. مع أن عذلي بل عذل الدنيا لا يؤخذ به في ظل تصاعد تأجيج العواطف. وهل سمع صدام نفسه لعذل بريطانيا العظمى، وهي ترجوه في الكف عن إعدام الصحافي بازوفت؟ وهل تجاوب لعذل قادة الدول الاشتراكية، من أصدقائه، وكف عن إعدام الخمسة والثلاثين عراقياً من الجنود الحفاة، بتهمة تنظيم تابع للحزب الشيوعي العراقي في الجيش؟ كتبت «لا تعدموا صداماً» وأنا، على المستوى الشخصي، لم أطق صوته ولا صورته، منذ أخذت الأضواء تحيط به. إلا أن قتله صبراً لا يُرجع خسارة واحدة من خساراتي: إعدام أخ، واغتيال أولاد عمومة وأصدقاء كثرٌ، وتخريب بيئة، وغربة بدأت منذ كان نائباً، واستمرت حتى الساعة، ففي صبيحة سقوط نظامه خرج مَنْ يكمل المشوار، بأكثر قسوة، ومن داخل الأضرحة والمساجد.

لكن، بماذا تتمايز العهود، ومتى يبدأ عهد مؤسس لعراق آخر غير ما عهدناه، إذا فُرضت فيه طِباع دولة صدام نفسها؟ هنا تأتي خطوة العراق الموعود، وإن كانت عصية، وأول غيثها التعالي على خطاب يا لثارات...! وليس لأحد الاغترار بمهرجانات الناعقين وراء كل ناعق، فهم يدورون مع دورة الدولاب: صداميين بالأمس إسلاميين اليوم، وغداً لهم شأن آخر! ألم تتجمهر الجماهير وتفرش موائد طعامها تحت جثامين المصلوبين الأبرياء، المتدلية من على أعمدة حديقة الأمة (1969)، وحيت من هناك الأب القائد والسيد النائب؟ هذه الجماهير لا تحتاج إلى شحذ حماسة، بحاجة إلى قوانين، وثقافة تُهذب الأحزان، لا تُكرسها في دورة انتقام جديدة.

دعوا ما قبلها من القتل صبراً، وانظروا في مسلسل مقاتل الدولة العراقية الحديثة: استفتح الإنكليز سياستهم بإعدام الجماعة النجفية (1918)، بذريعة التأديب، ولم يؤدب الموت أحداً. وأُعدم الضباط القوميين، وصلبت جثامينهم (1941)، وازداد الشعور القومي حول المقتولين. وأُعدم قادة الحزب الشيوعي العراقي (1949)، وصلبوا نكاية، وتكاثرت الناس حول حزبهم. وقُتل نوري السعيد، وعبد الإله وطافت الغوغاء بجثمانيهما ببشاعة لا مثيل لها، وأُعدم وزراء ومدراء (1958)، ولم تأت الديمقراطية ولا السلام، وهما هتافا تلك المرحلة. وأُعدم الضباط من جماعة الشواف (1959)، وكثر أتباع هؤلاء ونما. وأُعدم عبد الكريم قاسم وصحبه (1963)، وظل الناس يتوهمون رؤيته في القمر. وتوقع البعثيون إبادة اليسار العراقي كافة (1963)، لكنهم ظلوا يعدمون به حتى السقوط الأخير. وطورد حزب الدعوة بقتل رجعي، وها هو في السلطة. وأخيراً، ويبدو ليس آخراً، قُتل صدام صبراً. لا ندري، متى تبدل اسم عقوبة القتل صبراً إلى الإعدام، وهو «نصب الإنسان للقتل» أو «أُمسك على الموت» (موسوعة العذاب). ولعل البداية كانت ترجمة (Execution) عن الإرث البريطاني، ودشنت بالجماعة النجفية أعلاه. ويبقى الاجتهاد مفتوحاً لأهل المعرفة.

كانت فكرة قتل صدام صبراً، وبهذه السرعة في شعبة الاستخبارات الخامسة بالكاظمية غربي بغداد، فكرةً ماكْرةً. وهو مكان على شاطئ دجلة، قِبالة ضريح الإمام أبي حنيفة من جهة الكرخ، دارت الحكايات حول فرامة لحوم المعدومين فيه وقذفها إلى الماء طعماً للأسماك، وأُخرجت منه قناطير الوثائق، وقوائم الذين لم تُسلم جثامينهم. المقصلة هي المقصلة ومربع الإعدام هو نفسه، وهذا هو مَكْر الفكرة، أن يجعل حفار البئر ضحيتها. يترقبه ويشعر بفرة دولاب المصائر، جلاد الأمس يبدو بذهوله ضحية من الضحايا المكان.

وللأقدار ضحكتان مع صدام، الأولى مشهد الحفرة، وكأنه تعلم من أحد الهاربين من وجه عدالته، حينما حفرت له أمه حفرة تحت أرضية الدار، ودفنت سره إحدى وعشرين سنة، لا تعرف به حتى شقيقته. لقد جعلت الأم الحفرة رحمها الذي حملته فيه. وكانت الثانية في مشهد النهاية، فهو مؤسس المكان وراعيه وكأن أرواح السابقين، من نساء ورجال نعرف منهم العديد من غير الأحزاب الدينية، ترمقه وتضحك الأقدار. الله أعلم، بماذا كان يفكر صدام وهو يُقلب ناظره، أسخر من المصير، أم تمثل بالمثل البابلي «أتبع مصيرك»!

إجمالاً، هناك خطيئة لصدام لا تتفرع هي خراب العراق، وما محاكمته، وإعدامه، على قضية الدُجيل، إلا أضعف الخطايا. لأنها جزيئة من قضية، وفيها ما فيها من ملابسات، وأولها أنها قَدمت صداماً ابن الطائفة، وإبراز حزب الدعوة هو الضحية الأوحد. وكان المفروض أن تُستهل محاكمته وتُختتم بالأشمل والأعم: خراب العراق. لكن، يبدو كان الإصرار على الدُجْيل مما في نفس يعقوب، فحين ذهب الطبيب ومستشار الأمن القومي موفق الربيعي، مع الوفد الذي زار صدام في أول أيام حبسه، سأله: لماذا قتلت الصدر؟! ردَ صدام ببراعة: «الصدر لّو الرِجل»؟ كاشفاً ما في السؤال من بساطة ومحدودية. بل تنازل عن تهمته الكًبرى «خراب العراق»!

حقاً لا باطلاً، لم يفكر ضحايا صدام أأسقطه الأمريكان أم غيرهم؟ أو أنه حوكم تحت الاحتلال أم في ظل الاستقلال! مثلما يتحدث الإعلام العروبي. فليس للإنسان المقهور التمييز بين الوطنية واللاوطنية، وهو يتعايش مع الدولة بالمصادفة. لا يعلم متى تنقض عليه بإعدام، أو سجن، أو بتر آذان، أو جدع أنف، أو سل لسان، كلها ممكنة في تلك الدولة. وبالتالي لا تعني الوطنية، أو هتاف عاشت فلسطين، لهذا المقهور سوى حماقة. ومع كل ما تقدم تبرز مسألة مهمة، بما لها من خطورة على الأذهان، هي تبادل المواقع بين الضحية والجلاد! وما يجلب «الموت صبراً» من عاطفة التناصر، إذا ما سوقت عبر مهرجانات الثأر. والمشهد باختصار بدا في ظل النظام الجديد: رسوم رموز الأحزاب والميليشيات، مرفوعة بطغيان فوق رؤوس جماعات من الجوعى والخائفين، يُرمق محكوم بالإعدام تحتها، فكيف ستلتقط ذاكرة هؤلاء المشهد؟

«سبق السيف العذل» بصدام، فدعوا البقية يشاهدون أنباء البناء. يدركون حجم الشر والهدم! لا تجعلوا الثارات تمنع خطوة التأسيس، التي لا تكرر لهذا الجيل ولا للأجيال القادمة، فتخيلوا فداحة الخسارة، وعُظم الأنانية إن رقصتم لهلاهل الموت، أي موت. لحظة تمناها محمد مهدي الجواهري عند ولادة الدولة (النجـف1921): «لنا فيكَ يا نشء العراقِ رغائبٌ.. أَيُسعف فيها دَهرُنا أم يمانعُ» (الديوان). و«الرغائب» لسنَّ متابعة زفرات الغوغاء وفتيانها. بل هنَ وقف دوران دولاب المصائر، وتبادل المواقع المتكرر بين الضحية والجلاد.

[email protected]