لماذا تحول صدام حسين من مجرم إلى ضحية ؟!

TT

لو أن لجنة بيكر ـ هاملتون تجتمع مجدداً فإنها بالتأكيد ستضيف الى قائمة الأخطاء، التي أشارت إليها في تقريرها الشهير، بنداً جديداً هو أن إعدام صدام حسين في فجر أول أيام عيد الأضحى المبارك، في مبنى الشعبة الخامسة في الاستخبارات العراقية السابقة كان خطيئة وأدى إلى اتساع الشرخ المذهبي في بلد بات يعيش فعلاً تحت وطأة الحرب الأهلية المذهبية والطائفية.

والاعتراض بالنسبة لهذا الأمر ليس سببه إعدام هذا الرجل، الذي يستحق الإعدام ربما أكثر من ألف مرة لقاء ما فعله خلال فترة حكمه التي كانت مسيرة ويلات ودماء وتصفيات حتى بالنسبة للحزب الذي أوصله الى ما وصل إليه، بل الطقوس التي رافقت هذا الإعدام وموعد التنفيذ الذي اُختير بينما المسلمون كانوا يتوجهون بوجوههم وقلوبهم نحو مكة المكرمة لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك .

معظم العرب الذين اعترضوا على إعدام صدام حسين لم يعترضوا على المبدأ بل اعترضوا على التوقيت وعلى «الطقوس» التي رافقت عملية الإعدام والتي أظهرت وكأن المقصود هو الانتقام من طائفة عراقية رئيسية أُعتبر النظام السابق، على غير وجه حق، أنه نظامها وأن عليها أن تدفع ثمن كل ما ارتكبه هذا النظام من أخطاء وخطايا منذ نهايات عقد ستينات القرن الماضي وحتى وصول القوات الأميركية إلى بغداد في إبريل (نيسان) عام 2003.

عندما لا يجد الذين قادوا صدام حسين إلى منصة الإعدام ما يهتفون به في لحظة وضع حبل المشنقة حول عنقه إلا اسم مقتدى الصدر، فقد استفزَّ مشاعر الفئة العراقية المسلمة الأخرى التي جرى التعامل معها منذ لحظة انهيار النظام السابق على أساس أن لحظة الثأر التاريخي منها قد حانت وأن عليها أن تدفع ليس ثمن الأربعين سنة الأخيرة بل ثمن كل ما جرى على مدى التاريخ الإسلامي كله منذ حادثة «فَدَك» مروراً بالعهد الأموي والعباسي والخلافة العثمانية.

كل الذين شاهدوا على شاشات فضائيات العالم عملية إعدام صدام حسين شنقاً حتى الموت، أحسّوا بأن العدالة التي طُبِّقت لم تطبق باسم الشعب العراقي كله، بكل مكوناته القومية والطائفية والمذهبية، وإنما باسم فئة واحدة هي الفئة التي ينتمي إليها السيد مقتدى الصدر وهي الفئة التي تعالت هتافاتها المعروفة «اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد» عندما هوت منصة الإعدام بالرجل الذي لا نقاش في أنه يستحق ألف إعدام ولكن ليس في مثل هذا الوقت ولا تحت وهج تلك الشعارات التي جرى ترديدها في لحظة كان يجب ان تكون للشعب العراقي كله وليس لطائفة واحدة.

وهنا فإن ما يؤكد ان عملية إعدام صدام حسين، الذي لم تقتصر جرائمه على فئة عراقية وحدها بل طالت الشعب العراقي كله بكل فئاته وأحزابه وقومياته، حتى بما في ذلك حزب البعث وقياداته، قد أعطيت الطابع المذهبي، أن مسؤولا عراقياً كبيراً ردَّ على من سأله :«ولماذا أُختير هذا الموعد ولماذا يوم عيد الأضحى المبارك ؟!» بالقول: «إن عيد الأضحى بالنسبة للعراق هو يوم غدٍ وليس اليوم» .. والمعروف أن الطائفة الشيعية الكريمة لا تحتفل لا بهذا العيد ولا بعيد رمضان المبارك في الأيام التي يحتفل فيها السنة بهاتين المناسبتين العظيمتين.

ثم ولعل ما زاد الطين بلَّة، كما يقال، أن أحد كبار المعممين من قادة الميليشيات المذهبية قد أطلق تصريحاً اعتبر فيه أن عملية الإعدام هذه ليست انتصارا للشعب العراقي كله وللديموقراطية العراقية وإنما هي: «ردٌّ على الاضطهاد القومي والطائفي خلال سنوات حكم النظام السابق وردٌّ على المعادلة التاريخية التي بقيت منكسرة ولفترة طويلة»!!.

إن هذا هو الذي جعل كثيرين في العراق وخارجه يقفون هذا الموقف الذي وقفوه إزاء إعدام صدام حسين مع أنهم واثقون بأنه يستحق حتى ما هو أكثر من الإعدام، فهؤلاء تعززت لديهم القناعة بأن العقلية الثأرية الطائفية والمذهبية هي التي تحكمت في خط سير العراق منذ إسقاط النظام السابق وأنها هي التي أوصلت الأمور الى ما وصلت إليه وجعلت الطائفة الأخرى، أي الطائفة السنية، تشعر بأنها مستهدفة وأنها إن لم تدافع عن نفسها فإنها ستنتهي فريسة للميليشيات الحاقدة.

حتى اقتصار معاقبة صدام حسين على جريمة مذبحة «الدِّجيل» وحدها وإسدال الستار على الجرائم الأخرى، ومن بينها جريمة «الأنفال» و«حلبجة» والاغتيالات الجماعية للمئات من قادة حزب البعث وكوادره قد فهمت على أنها توظيف طائفي واضح وفهمت، داخل العراق وخارجه، على أنها جاءت في إطار الثأر المذهبي الذي بقي يتأجج كالجمر تحت الرَّماد الى أن حانت هذه اللحظة التي وصفها آية الله العظمى المدرِّسي بأنها اللحظة التي وصل فيها «الأمر» الى الحوزات العلمية والذي يجب ان يبقى بيد هذه الحوزات الى أن يأتي يوم القيامة.

إن ما يعرفه الذين حوَّلوا إعدام صدام حسين من حدث وطني عراقي الى ثأر مذهبي لفئة واحدة ان هذا الرجل لم يكن يهمه إلا حكمه واستمرار نظامه، وأن عدد القادة الذين قتلهم من حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي حكم كل هذه السنوات باسمه، أكثر من كل القيادات التي قتلها من كل الأحزاب والقوى الأخرى، العربية وغير العربية، وحتى بما في ذلك حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية .

عندما تصل نسبة «الشيعة» في حزب البعث، وبخاصة في سنوات ما بعد إنفراد صدام حسين بالحكم، الى أكثر من سبعين في المائة، فإن هذا يعني أن النظام السابق لم يكن نظام السنَّة وحدهم، وهو بالطبع لم يكن لا نظام الشيعة ولا حتى نظام حزب البعث.. كان نظام صدام حسين وحده وفقط، والدليل على هذا ان صدام حسين لم يتورع عن اغتيال عدنان خير الله طلفاح، الذي كان أقرب المقربين إليه عندما شعر بأنه بات يشكل خطراً على نظامه، وهذا ينطبق حتى على أحمد حسن البكر وحسين كامل وعلى كل القادة البعثيين الذين ولغ في دمائهم في عام 1979، ومن بينهم ذلك الرجل الطيب عبد الخالق السامرائي.

منذ البدايات كان على الأميركيين، الذين أثبتوا أنهم لا يعرفون هذه المنطقة ولا تاريخها ولا أهلها، ألا ينساقوا وراء القوى التي رافقتهم في رحلة المجيء الى العراق وهي متعطشة لثأر تاريخي، من المفترض ان الزمن تجاوزه وأن هذا العصر ليس عصره، وألا يتعاملوا مع فئة عراقية رئيسية على أن النظام السابق هو نظامها وأن عليها ان تدفع الثمن ويجري تهميشها بعد أن سقط هذا النظام .

ومنذ البدايات كان على الأميركيين أن يجعلوا من محاكمة صدام حسين، والزمرة التي استخدمها كجلاوزة لترسيخ نظام حكمه، محاكمة وطنية عراقية وليس محاكمة مذهبية ولا طائفية، وكان عليهم ألا يقدِّموا جريمة مذابح «الدِّجيل» على الجرائم الأخرى.. لقد كان عليهم ان يضعوا في الواجهة الجرائم التي استهدفت قادة حزب البعث من اغتيال حردان التكريتي في الكويت، الى إغتيال شفيق الكمالي وعبد الكريم مصطفى نصرت وصالح مهدي عماش وعبد الكريم الشيخلي ومحمد عايش وعدنان الحمداني وعدنان خير الله طلفاح وأحمد حسن البكر وحسين كامل وراجي التكريتي إلى آخر هذه السلسلة الطويلة.

لا أحد يستطيع إنكار ان مذبحة «حلبجة» كانت إحدى جرائم العصر ولا أحد يستطيع ان يبرئ صدام حسين لا من جريمة «الأنفال» ولا من جريمة «الدِّجيل» ولا من المذابح البشعة التي تعرض لها أهل الجنوب في عام 1991 ولكن وبما ان الهدف هو الحفاظ على وحدة العراق فإنه ما كان يجب إضفاء الطابع المذهبي والطائفي لا على محاكمته ولا إعدامه بل كان يجب البدء بالجرائم التي ارتكبها ضد الفئة التي تتهم الآن بأن نظامه كان نظامها وبالجرائم التي ارتكبها ضد الحزب الذي حكم باسمه والذي كان يوصف النظام السابق بأنه نظامه.

لا جدال على الإطلاق في أن النظام السابق كان من أشد أنظمة القرن العشرين المستبدة استبدادا، ولا جدال في أن صدام حسين كان جزاراً وسفاحاً وقاتلاً وأن الغاية بالنسبة إليه كانت دائماً تبرر الوسيلة وأن غايته كانت وباستمرار أن يبقى الحكم حكمه وحده، وألا ينافسه عليه أي كان حتى أبناؤه، ولذلك فإنه ما كان على الحريصين فعلاً على إخراج العراق من هذا المأزق التاريخي، الذي أصبح فيه، أن يتصرفوا بالطريقة التي تصرفوا بها، وأن يضفوا على محاكمة هذا الرجل وزمرته وعلى إعدامه أيضاً طابعاً طائفياً بغيضاً، وبطريقة ثأرية وانتقامية، وإظهاره لحظة وضع حبل المشنقة حول عنقه، وكأنه يدفع ثمن الحرب الإيرانية ـ العراقية.. إنهم بهذا حوَّلوا المجرم إلى ضحية، وأنهم بالطريقة التي اتبعوها هذه زادوا الوضع العراقي المأساوي مأساوية..!