عندما تصنع العدسة البطل

TT

كنت بالصدفة في بغداد لحضور مؤتمر عربي رسمي في نهاية ديسمبر 1989، عندما قامت الثورة التي أطاحت بحكم الدكتاتور الروماني تشاوسيسكو.. وعلى الرغم من أن بغداد كانت أوانها كعبة كل الحكام والمسؤولين العرب بعد خروجها ظافرة من الحرب المدمرة مع إيران، إلا أن شعورا قويا سيطر علي بأن النظام القائم سائر في اتجاه المثال الروماني.

لم أكن أتوقع أوانها أن تسير الأمور بسرعة، فتحدث حماقة احتلال الكويت ثم يدخل النظام في نفق مظلم لسنوات طوال تنتهي بالحرب الأمريكية لإسقاطه، كما لم أكن أتوقع أن تكون نهاية رأس النظام على المقصلة الأمريكية، شهيدا بطلا في عيون الكثيرين بدل أن توفر له محاكمة عادلة نزيهة تكون قطيعة فعلية في تاريخ العراق الحديث الملطخ بالدماء.

أطل علي من جديد الشبح الروماني، وتذكرت يوم زرت بوخارست في فبراير 2002 للإشراف على ندوة حوارية عربية أوروبية. وكنت كلما أمر بمعلم عمراني لافت للانتباه يقول لي المستشرق العجوز دوبرشان الذي رافقني في رحلتي الرومانية «إن هذا كله من إنجاز المرحوم» ( يعني تشاوبسكو).

بدا لي تعليق دوبرشان ساخرا يغلب عليه التهكم.. فقد سمعت الكثير عن استبداد تشاوسيسكو وقمع أجهزته الأمنية، بيد أني سمعت مرارا خلال إقامتي في بوخارست مزحة المستشرق العجوز من تعليقات الناس وتحليلات الساسة والجامعيين... قال لي أحدهم: كنا نعيش في الظلم والقهر، متساوين في الفقر والقمع.. واليوم نصرخ ما شئنا بأعلى صوتنا.. أسواقنا مليئة بالبضائع الغالية.. الفقر يزداد والأمن ينهار... والأجهزة الأمنية التي كانت تحكمنا تحولت إلى مافيا تسرقنا وتستنزف مواردنا باسم الديمقراطية والحرية.. فتصاعدت شعبية تشاوسيسكو وتزايد الحنين إلى أيامه التي كنا نعتبرها حالكة سوداء..

هالني الكلام، وسبحت مقلب الأحوال..

الكلام نفسه سمعته مؤخرا من شخصية عراقية مرموقة، من الطائفة الشيعية، ومن رموز معارضة النظام البعثي المخلوع.. قالت لي هذه الشخصية: «عارضنا صدام وعاديناه مدركين أنه رأس نظام قمعي استبدادي، قاد بلادنا إلى الكارثة.. لكن ماذا جنيناه بعد سقوطه؟

فتنة طائفية وأمن معدوم وانهيار اقتصادي واجتماعي شامل واحتلال أجنبي وتدخل خارجي من دول الجوار..

لقد كانت الدولة قمعية لكنها كانت كيانا قائما.. اليوم تلاشت... ولذا لا تستغرب عند ما يتحول صدام نتيجة لسياسات الأمريكان وحكومة بغداد إلى بطل في أعين من كانوا ينظرون إليه كوحش شرس..

كان هذا الكلام قبل إعدام صدام بأشهر.. وبقدر ما كانت محاكمة تشاوسيسكو سريعة وانتقامية، كانت محاكمة صدام بالصورة نفسها، لم تحترم فيها ضوابط وشكليات القانون، غلبت عليها الروح الانتقامية وانتهت بمسرحية الإعدام الفظيعة التي استفزت فيها مشاعر المسلمين في عيدهم الكبير.

ليس الاعتراض على المحاكمة.. فحق المقاضاة مقدس، مكفول لضحايا الرجل (وما أكثرهم).. بيد أن الطريقة المثيرة التي جرت بها المحاكمة وعملية الإعدام ولدت انطباعا عاما بأن المراد من الأمر كله ليس الكشف عن الحقائق وإنصاف المتضررين وإقرار العدل، وإنما إخفاء فصول طويلة مثيرة ومعقدة من تاريخ العراق المعاصر، كان صدام شاهدا مزعجا عليها بقدر ما كان فاعلا مذنبا فيها.

أريد إخفاء ملف الدعم الأمريكي للعراق أيام حربها مع إيران وتواطؤ الإدارة الأمريكية مع قمع واضطهاد الأكراد، وأريد إخفاء ما يشاع من تواطؤ ضمني بين إدارة الرئيس بوش الأب ونظام صدام في ملف احتلال الكويت.

قيل أن إعدام صدام سيكون بداية صفحة جديدة من العلاقة بين طوائف وقوميات العراق، في الوقت الذي يعيش العراق في فتنة طائفية مدمرة، أذكتها الطريقة التي نفذ بها الإعدام نفسه.

ظهرت مرة أخرى سذاجة العدسة الأمريكية في استغلال سلاح الصورة .. بعد فضيحة صور سجن أبو غريب التي قوضت «أخلاقية» و«مشروعية» الحرب التي قدمت بصلتها حرب تحرير للعراقيين، تأتي صور إعدام صدام وهو ينهي لحظة حياته الأخيرة بكلمات التشهد يوم عيد الأضحى ضربة قوية لجهود الإعلام الأمريكي في الوصول للشارع العربي والإسلامي.

وهكذا تحول الجلاد القاتل إلى بطل شهيد في عيون كثير من العراقيين والعرب والمسلمين... لم تدرك الآلة الإعلامية الأمريكية أن الموت هو صانع الأسطورة الأكبر، وأن شعوبنا يحكمها الأموات، يرونهم في أحلامهم، ويتوقعون حتى عودتهم.

وبقدر ما تنهار الأوضاع في العراق، وتنتهي سلطات الاحتلال الى أفق مسدود، وتزداد الفتنة الطائفية فظاعة، تتجمع عناصر الأسطورة، ويميل العراقيون إلى نسيان مسار الرجل الفعلي وفظائعه المعروفة، فيخلقون له صورة مغايرة.. ولا يبقى من تاريخه سوى صورة البطل المشنوق الذي وقف صلبا ضد احتلال بلاده. ولنتذكر جيدا أن الجموع تحركها الأسطورة لا تحليلات الساسة وحقائق التاريخ.