مات صدام.. لكنه لا يزال ينتظر الإعدام !

TT

ما هو الفرق بين الإعدام والموت؟ كيف تختلف فلسفة كل منهما ولا سيما أنهما يؤديان إلى النهاية نفسها طال الأمد أم قصر؟ الموت هو التراجيديا القدرية التي تقف على نهاية طريق هذه الحياة. أما الإعدام فهو احدى الوسائل التي تعجل بالوصول إلى تلك النهاية القدرية.

وبالتالي فقد يتساوى الإعدام والموت في هذا المعنى، كأن يكون كافة البشر في حكم الإعدام إلى أن تتحقق مشيئة الله. إذن لماذا سنت البشرية أحكاما بالإعدام اختلفت أساليبها وأدواتها عبر العصور وفي مختلف الثقافات؟ لماذا لا ننتظر أن تتحقق النهاية القدرية ممن عاثوا في الأرض فسادا وعبثا حتى يبدأ الحساب الأكبر؟

يختلف الإعدام عن الموت بالرمزية وليس بالفناء الجسدي. الموت الطبيعي يحمل رمزية قبول الإنسان وذكراه على الأرض إلى أن يلاقي ربه. بينما رمزية إعدامه تحكم بالعدم والفناء لنموذجه وبدعه على الأرض والتي لم تجلب إلا شقاء الإنسانية وتعاستها، وقد كان ذلك حال لسان إعدام صدام حسين. كرس صدام نظاما ستالينيا يقوم علي أساس «عبادة الفرد الأوحد»، والتي تصاحبها متطلبات تقوم على تكريس ثقافة التخوين والثأر والانتقام وتحطيم كافة الولاءات والانتماءات الأخرى. وهي انتماءات طبيعية لابد أن توجد في أي شخصية سوية بما فيها الانتماء إلى الأسرة والمجتمع والوطن والدين. كان لابد من أن تختزل كل تلك الانتماءات في شخص الزعيم البطل الذي قاد الأمة إلى الهاوية. وقد أدرك العديد من العراقيين خطورة ذلك المشروع السيكولوجي المدمر، مما أدى إلى زيادة أعداد الطيور المهاجرة إلى خارج الوطن، لا سيما أصحاب العقول والتي كانت تزخر بهم العراق

وتفخر.

إعدام صدام كان يهدف من ورائه إلى إعدام تلك الثقافة ولكن مجريات المشهد السياسي في العراق تؤكد أن تلك الثقافة الصدامية لا تزال تنبض بالحياة، وتتجلى في العديد من الصور والمحطات مما تلقي بشكوك حول بلوغ العراقيين الحقيقة الرمزية جراء إعدام رئيسهم السابق.

كانت أولى تلك المحطات هي في آداء حكومة المالكي المرتبك في ظروف المحاكمة وتعجيل تنفيذ الحكم مما عرضها لانتقادات بأنها تحمل النفس الطائفي في التعاطي مع ذلك الملف. دليل ذلك استعجال الحكومة ولاسيما «حزب الدعوة» بتنفيذ الحكم بموجب حكم قضية الدجيل دون انتظار حكم قضية الأنفال والقضايا الأخرى. الصيحات التي أطلقت عند إعدامه تنادي بمحمد باقر الصدر أو مقتدى الصدر. وكأن الحكومة أرادت أن تبين بأن صدام هو زعيم السنة، وأن تنكيله طال مواطنيه من الشيعة دون السنة. وهذا غير صحيح، فقد كان مناصروه من الصداميين من كافة الطوائف العراقية بما فيها الشيعة، وكذلك الحال مع ضحاياه ومعارضيه، بل إن عدوانه امتد إلى كافة دول الجوار، فلم يكن العداء لإيران الشيعية فقط، بل امتد إلى توأمه البعثي في سوريا، وكذلك دولة الكويت وباقي دول الخليج ذات الأكثرية السنية. فقد كان صدام يعيش حالة مرضية من العداء وكره الآخر. وبالتالي فقد كان لزاما على حكومة المالكي أن تبعد ذلك المشهد الطائفي إذا كانت ترمي من وراء تعجيل تنفيذ الحكم إلى تعزيز جهود المصالحة والحوار الوطني ولاسيما مع البعثيين والذي بدأته من عدة أسابيع سابقة لتنفيذ الإعدام.

بل إن الأخطر من ذلك هو في مرحلة ما بعد الإعدام، فما طفقت التصريحات من قبل العديد من السياسيين والمحللين العراقيين على القنوات الفضائية تهدأ حتى تأكد أن ذلك الإعدام لن يعزز جهود المصالحة بل سوف يكرس التقسيم الطائفي، والذي سوف يقود بدوره إلى حرب أهليه مكشوفة. وتلك هي المحطة الثانية في تجلي الثقافة الصدامية حيث تحقق للدكتاتور ما أراد حتى بعد وفاته من إبقاء العراقيين على حالة من الثأر والانتقام والتناحر حتى الفناء.

يقول أحد هؤلاء الساسة (من غير الصداميين البعثيين!): «قد تكون حكومة المالكي سعت من خلال إعدام صدام إلى إرضاء الإيرانيين

والشيعة ولاسيما ضحايا صدام، إلا أننا سوف نرى من سوف يبكي في المستقبل حال مغادرة الأمريكيين العراق».!! ومهما كان من نفس طائفي شاب تنفيذ الحكم، إلا أن الحدث لابد أن يشكل بداية جديدة يشارك فيه كافة الفرقاء العراقيين في بناء عراق لكافة العراقيين وليس لفئة منهم.

لقد أضفى إعدام صدام مسؤولية اكبر على عاتق العراقيين للوصول إلى صيغة سياسية ترضي جميع الأطراف. فقد غابت مع غياب صدام آخر احتمالات عودة النظام البائد، فلم تعد تلك الشماعة موجودة لتبرير فشل العراقيين في إقامة مشروع الوحدة الوطنية. لاسيما أن حقيقة تفجر المشهد العراقي ليس إلا صراعا مفتوحا على السلطة بين مختلف الطوائف الرئيسية في العراق، وآن الأوان لتتحمل تلك الطوائف مسؤولية إعادة بناء تلك الوحدة.

ولكن المعضلة تكمن في أن الصيغة السياسية الوحيدة التي يعرفها الفرقاء العراقيون، هي التفرد وليس المشاركة في السلطة، والبحث عن الزعامات في زمن المؤسسات. وذلك اخطر إسقاطات النظام البائد الذي أصل فكرة الزعيم الأوحد وزرع ثقافة أحادية لا تؤمن بالآخر. تمرد السنة ورغبتهم الجامحة في طرد الأمريكيين ليس إلا بسبب قناعاتهم بأنه في حال حدوث ذلك فهو إيذان بعودتهم للتفرد بالسلطة دون بقية الشركاء. كذلك الحال مع الشيعة الذين يسيطرون على الحكومة، وكذلك على الشارع الشعبي من خلال اقتتال أتباع الصدر والحكيم على الإمساك بزمام القرار الشيعي والقرار العراقي.

في ظل تلك الحالة وعند تعالي الأصوات التي تنادي بالصدر وابنه مقتدى في حادثة الإعدام، نقول إن البديل ليس بمقتدى أو الحكيم بل بدولة المؤسسات حيث كل من الزعيمين جزءا منها لا يتجزأ.

أن الإعدام الحقيقي لصدام هو إعدام ثقافته التي زرعها في أوساط العراقيين، وهي ثقافة التفرد بالسلطة وإلغاء الآخر، فإن لم يستطع العراقيون التغلب عليها فذلك يعني البقاء الرمزي للطاغية وبقاء الفوضى وعدم الاستقرار للعراق ولجيرانه من دول لا تزال تعيش القلق، وتعاني كابوس الاحتلال و الدمار.

لذلك نقول: مات صدام.. لكنه، ما زال ينتظر الإعدام الحقيقي!

* كاتبة وأكاديمية كويتية