تجارة الديمقراطية.. بخير

TT

الحمد لله... ثم الحمد لله أن العام 2006 لم ينقض من دون أن تسجل صادرات الولايات المتحدة من «الديمقراطية» المعلبة نموا ملحوظا في الشرق الأوسط قد يعوض، ولو معنويا، ارتفاع عجز ميزان التجارة الأميركي الى أعلى مستوياته.

أحدث إنجازات الصادرات الأميركية من «الديمقراطية» ما بشر به الرئيس جورج بوش عن تحقيق «خطوة مهمة» على طريق الديمقراطية في العراق بإعدام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، صبيحة عيد الأضحى المبارك... فهل يأتي يوم يذكر فيه التاريخ أن الولايات المتحدة، بعد أن فشلت في إرساء قواعد الديمقراطية في العراق بواسطة الاحتلال العسكري أولا، والدستور المدني ثانيا، والانتخابات النيابية ثالثا... وجدت في رأس صدام حسين «الحلقة المفقودة» في مسيرة ـ ومصير ـ ديمقراطية العراق؟

حبذا لو تنبهت الى ذلك باكرا وأعدمت ـ أو حتى اغتالت ـ صدام حسين غداة إلقاء القبض عليه، لكانت وفرت على مسيرة «الديمقراطية» العراقية ثلاث سنوات من «خطواتها المهمة»، وعلى قواتها، ثلاث سنوات مكلفة من المعارك اليومية.

أما وقد اختارت إدارة بوش السكوت عن إعدام صدام حسين بعد أن انتفى المردود السياسي المباشر من إعدامه، فقد فتحت الباب واسعا للتساؤل عما إذا كان تنفيذ الإعدام في هذا الوقت بالذات يندرج في اطار «الثأر الشخصي» أم في إطار إعادة النظر (المقترحة من لجنة بيكر ـ هاملتون) في سياسة الإدارة حيال العراق.

الحديث عن دافع الثأر الشخصي بين آل بوش وصدام حسين ذو شؤون وشجون. ولكن، إذا صح اعتبار إعدام صدام حسين مؤشرا أوليا للتوجه الأميركي الجديد في العراق، عندئذ يمكن الاستنتاج بأن واشنطن، في سعيها لضمان مخرج «لائق» لانسحاب قواتها من العراق، أصبحت أكثر ميلاً الى تسليم السلطة الى «الشيعة العرب» على حساب «السنة العرب»، من جهة، و«الشيعة الفرس» (جماعة عبد العزيز الحكيم) من جهة أخرى، الأمر الذي يبرر إزالة أبرز رمز محتمل لعودة البعثيين (السنة) الى الحكم ويفسر في الوقت نفسه «تكليف» جماعة مقتدى الصدر بعملية الإعدام.

اللهم ليس دفاعا عن صدام حسين القائد ولا حتى الإنسان ـ وسجله لا يشجع على ذلك ـ بل تذكيرا بمأزق إدارة الرئيس بوش في الشرق الأوسط كله وليس في العراق فقط، والناجم عن إصرارها على«وضع العربة أمام الجواد» واعتبار المشكلة الأم في الشرق الأوسط، أي القضية الفلسطينية، مجرد مشكلة «جانبية» في الحرب الدونكيشوتية التي تشنها على «الإرهاب الدولي» منذ 9 سبتمبر2001، رغم قناعة معظم حلفائها الغربيين بأن مشاكل الشرق الأوسط تبدأ بفلسطين وتنتهي بفلسطين وتتفرع من فلسطين.

باختصار، قبل أن يحقق الرئيس بوش رؤياه للدولتين «الديمقراطيتين» المتعايشتين بسلام، جنبا الى جنب، على أرض فلسطين... لن تلقى تجارة الديمقراطية الأميركية سوقا رائجة في الشرق الأوسط، خصوصا أن هذه التجارة أصبحت، بفضل تصرفات واشنطن، مربحة للأصوليين أكثر مما هي للأميركيين وللمؤمنين الحقيقيين بجدواها، بعد أن حولتها واشنطن الى «سلعة أميركية» فأتاحت للأصوليين والأحزاب الشمولية تحويل عدائهم المزمن للديمقراطية والتعددية الى موقف «وطني» وعرضت الليبراليين الحقيقيين في العالم العربي إلى تهمة «العمالة».

أي جردة حساب هادئة لحملة الترويج الأميركية للديمقراطية في الشرق الأوسط تظهر أن حملة واشنطن ذهبت الى الشرق الأوسط «لتطلب قرنا فعادت بلا أذنين»:

ـ في العراق لم يتوصل 135 ألف جندي أميركي وثلاث سنوات من العمل الدؤوب إلى بسط الديمقراطية حتى بالقوة ولا الى التأسيس لحياة حزبية سليمة، بقدر ما نجحوا في نبش التيارات الأصولية وبعث الميليشيات المذهبية، حتى صار الخيار الأميركي نفسه للعراق «الديمقراطي» ينحصر في أي ميليشيا مذهبية أقدر على تحمل مقاليد السلطة من غيرها.

ـ في فلسطين، وبعد أن أحبطت واشنطن ـ بنصيحة من أرييل شارون ـ آمال الرئيس الراحل ياسر عرفات وحركته العلمانية «فتح»، في دولة فلسطينية تقوم على ربع مساحة الوطن الفلسطيني فقط، «فوجئت» بحركة «حماس» الأصولية تقطف، ديمقراطيا وعبر انتخابات نزيهة، ثمار فجيعة «فتح» والفلسطينيين في الوعود الأميركية المهدورة، فأصبح شغل واشنطن الشاغل الانقلاب، «ديمقراطيا»، على الديمقراطية الفلسطينية بعد أن صادرها الأصوليون.

ـ حتى بالنسبة الى أخصب تربة للديمقراطية في الشرق الأوسط، لبنان، تحول الدعم الأميركي لحكومته الشرعية المنتخبة الى عبء عليها ـ باعتراف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة نفسه ـ نتيجة التصرفات الأميركية حيال ديمقراطيته الناشئة، بدءا بتلكؤها في الضغط على إسرائيل للانسحاب من بلدة الغجر اللبنانية وامتناعها حتى عن مطالبتها بوقف خروقاتها الروتينية للأجواء اللبنانية... الأمر الذي أعطى مصداقية شارعية لحملة التشكيك التي يقودها «حلف الأصوليين والوصوليين» في ديمقراطية لبنان وعزز آمال المعتصمين «بحبل» حزب الله في وسط بيروت التجاري في إلحاق هزيمة بالأميركيين على الساحة اللبنانية ـ وفق ما تعهدت به راعيتهم، إيران ـ فيما المستهدف فعلا بالهزيمة هو المجتمع المدني الديمقراطي في لبنان.

مؤسف أن أي طرح مخلص للديمقراطية كنظام حياة حضاري لمجتمعات الشرق الأوسط السياسية، ولبنان تحديدا، سيبقى مطعونا به وطنيا طالما لم تصدر عن العاصمة الأميركية إشارة واحدة توحي باحتمال إعادة ترتيب أولوياتها في المنطقة انطلاقا من حجم مخاطر هذه الأولويات على استقرار المنطقة ككل، وليس أمن إسرائيل فقط، وطالما شكل هذا الواقع تغطية سياسية لادعاء الأحزاب الشمولية، خصوصا في لبنان، احتكار الوطنية والعروبة بقوة السلاح والمال... الإيراني.