.. بل وفيم الاختلاف ؟

TT

أثار اهتمامي خبران في الصحافة الإسرائيلية، أولهما عن مؤتمر دعا إليه دان حالوتس لتنظيف ملفه في الحرب على لبنان، وجاء في الخبر أنه كان هناك مؤتمران: واحد في الداخل يمتدح ويتملق دان حالوتس، وواحد في الخارج ينتقده بشدّه ويكيل التهم إليه على الخسارة التي منيت بها إسرائيل في لبنان. وثانيهما عن فضيحة مصلحة الضرائب وتورط مديرة مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية «شولا زاكن» في واحدة من أكبر قضايا الفساد التي تم الكشف عنها والتي اعتبرت «هزة أرضية» تري أن الدولة العبرية «ينخرها الفساد والعفن»، وكتب المعلق السياسي في صحيفة «معاريف» بن كسبيت يقول إن «الدولة عفنة من الأساس، من القاعدة حتى الرأس. الفساد يكتنفها ويتغلغل في كل مكان ونحن أمام انهيار مفاجئ للمبنى كله وتلاشيه غباراً نتناً ودقيقاً».

وفي غضون ذلك كشف كتاب الصحافي الإسرائيلي أوري دان الذي توفي مطلع الأسبوع الماضي، والذي كان مقرباً جداً من رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أرييل شارون، كشف عن ضلوع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون في «وفاة ـ اغتيال» الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الحائز على جائزة نوبل للسلام! في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 إذ كتب «إن شارون سيظهر في كتب التاريخ كمن قضى على عرفات من دون أن يقتله»، بعد أن سرد حوادث طلب شارون من الرئيس بوش إطلاق يده للخلاص من عرفات.

وما أثار اهتمامي هو أن كلّ هذه الأخبار لم، ولن، تتخذ ذريعة من قبل أحد للانقضاض على الدولة العبرية أو اعتبارها «دولة فاشلة»، طبعاً بالإضافة إلى تاريخها الإجرامي في القتل اليومي للفلسطينيين واحتلال أرضهم ومصادرتها، وتهجيرهم من أرض الآباء والأجداد.

وأسوق هذا المثال لأجيب على بعض المفكرين والإعلاميين العرب الذين يحاولون تفسير الأزمات التي تمرّ بها هذه الأمة من خلال اعتناق فكرة ضرورة إحلال الديمقراطية في العالم العربي ومحاربة الفساد وإحلال التعددية الحزبية مكان الحكم التقليدي أو الحزب الواحد. وقد دعا البعض إلى قمة وحيدة يقول كلّ بلد عربي بصدق أين أخطأنا وأين أصبنا، وأعتقد أنه يمكن لنا فعل ذلك خارج إطار القمة، بل قد يكون من المحبذ مناقشة هذه المسألة خارج إطار القمم مع التأكيد على الالتزام بالصدق والجرأة في كل ما نقول.

لا شك أن تمزيق الوطن العربي وفق سايكس بيكو وتشكيل دول عربية بعد الحرب العالمية الثانية أهمل تطوير مفهوم الوطن والمواطنة، وتخللت نظريات الأحزاب السياسية الكثير من الانشائيات التي لا تصمد أمام امتحان العمل اليومي، وحتى حين كانت النظريات صحيحة وثاقبة لم تتم ترجمتها، في الغالب، الى أفعال، وبقيت حبراً على ورق. ومع إدراكي لخطورة التعميم هنا إلا أننا جميعاً نتفق أن الحراك الفكري والسياسي في العالم العربي كان في حال أفضل حتى سبعينات القرن الماضي مما هو عليه الآن، وهذا بحدّ ذاته معيار خطير إذا رأينا كم تقدمت الأمم وكم من الأشواط قطعت في العقود الماضية ذاتها. ولا شك أن هذا يستدعي من جميع المؤمنين بعروبتهم البحث عن الحلول الواقعية المجدية للعديد من المشاكل المزمنة من إصلاح التعليم بكافة مراحله إلى سيادة القانون في الحياة العامة، وتمكين المرأة وما إلى هنالك من جداول عمل تشغل المخلصين عقوداً إذا ما قرروا الالتفات الى العمل الجاد والمثمر. ولكن الحال الذي وصلت إليه معظم البلدان العربية نتيجة عدم فعل، أو عدم القدرة على فعل، ما يتوجب فعله لترسيخ مقومات الاستقلال والنموّ والازدهار ليس السبب الأساسي للهجمة المركّزة اليوم على العرب ـ إلا من ناحية استغلال ضعفهم ـ والتي تهدف إلى إعادة هذه البلدان قروناَ وليس عقوداً إلى عهود العبودية والإذلال القومي والتبعية للأجنبي.

والطروحات الملازمة لهذه الهجمة أشدّ خطورة على الأمة من كلّ ما اعتراها في تاريخها، لأنها تعمد إلى إلغاء البعد القومي للأزمات التي تواجهها معظم البلدان العربية، مع أن البعد القومي أساسي في فهم ومعالجة هذه الأزمات. كما تحاول الطروحات إخفاء الهدف الحقيقي لهذه الهجمات عن الأنظار، ألا وهو النفط الذي تعوم عليه بلدان عربية، وما يعني ذلك للولايات المتحدة ليس فقط في استغلال النفط، وإنما في حرمان العرب أولاً من استخدامه للنهوض والتنمية، وثانياً حرمان الأمم المنافسة مستقبلاً، مثل الصين، من وضع يدها على أيّ من هذه المصادر. ولا أدل على الهدف الثاني مما حصل للصومال من الاحتلال الإثيوبي، والذي غدا واضحاً أنه تمّ بدفع ومباركة من واشنطن التي لم تستطع، بسبب الانتقادات الشديدة التي تتعرض لها نتيجة غزوها لأفغانستان والعراق، أن تقوم بغزو مباشر للصومال فأوكلت ذلك إلى إثيوبيا بحجة محاربة «الإرهاب الإسلامي»، واستكملت واشنطن موقفها بإعاقة إصدار قرار لمجلس الأمن يطالب إثيوبيا بالانسحاب من الصومال، ولم يكن صعباً على الولايات المتحدة أيضاً في ظل هيمنة الهوان والانكسار على الحكومات العربية، دفع الاتحاد الإفريقي لتأييد الغزو الإثيوبي للصومال، رغم أن إثيوبيا ارتكبت «مخالفة صريحة» بغزوها الصومال من دون «تفويض من مجلس الأمن والسلم» أو من «المجلس الرئاسي التابعين للاتحاد»!! وقال المحلل مايكل وينشتين «شجعت واشنطن أديس أبابا على المضي قدماً. ووفرت التغطية الديبلوماسية نفسها التي منحتها لإسرائيل لمهاجمة لبنان خلال الصيف الماضي ولأسباب مشابهة». وأضاف وينشتن أستاذ السياسة في جامعة في أنديانا: «ملّ الأميركيون العاديون التدخل الأجنبي، ومن ثمّ ما حدث في الصومال سيكون الآن إستراتيجية مفضلة باستخدام حلفاء في المنطقة أداة للهجوم».

أو لهذا السبب تشغل إسرائيل مركزاً لمصلحة الأمم المتحدة، لرصد التجارب النووية الإيرانية؟ كما بدأت إسرائيل تسعى اليوم للانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوربي لتلعب دوراً أكبر في المنطقة. فقد نقلت صحيفة هآريتس في 2 كانون الثاني 2007 عن وزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، أفيدور ليبرمان، طلبه أن تعمل إسرائيل على الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلسي حيث قال إن «الهدف الدبلوماسي والأمني لإسرائيل يجب أن يكون واضحاً: الانضمام إلى الأطلسي ودخول الاتحاد الأوربي»، مضيفاً أن «الحرب التي نشنها في الشرق الأوسط لا تخص إسرائيل وحدها وإنما هي حرب العالم الحر بأسره ونحن نقع على الخطوط الأمامية»، ولم يكمل ليبرمان عبارته بأن إسرائيل تمثل رأس الحربة في الحرب الغربية على المسلمين بأسرهم. ومن هذا المنظور فقط يمكن فهم كلّ الإذلال الذي يتعرض له العرب في العراق وفلسطين والسودان والصومال، ومن هذا المنظور فقط يمكن فهم ما كشف عن التدنيس المتعمد للمصحف الشريف من قبل الجلادين في غوانتانامو وإذلال المعتقلين المسلمين بطرق تعذيب مهينة ترفضها كل الأخلاق والأديان والقيم. وفي هذا الإطار فقط يمكن فهم سحب لقب فارس من نسيم حميد، الملاكم البريطاني «اليمني الأصل»، بطل العالم السابق لوزني الريشة والخفيف. ومن هذا المنظور فقط يمكن فهم تعنت إسرائيل في سجن سكان الضفة الغربية داخل أربعمئة حاجز تجعل حياة الفلسطينيين إهانة والموت خلاصاً بالإضافة إلى سياسات التجويع ومنع المساعدات والمؤن عنهم. ومن هذا المنظور فقط يمكن أن نفهم ما يجري في لبنان وتركيز البعض على المحكمة الدولية والتي تناقض دستور وسيادة وكرامة لبنان كوطن، كما شرح البروفيسور داوود خير الله ، أستاذ القانون الدولي في جامعة جورج تاون، في كتاب مفتوح وجهه إلى وزير العدل اللبناني حول المحكمة الدولية نشرته جريدة الأخبار اللبنانية في 4 كانون الثاني 2007.

كل هذا والقادم أعظم. فقد أثمر لقاء ميركل وبوش في واشنطن عن اتفاق بين واشنطن وأوروبا حول «ما يتوجب القيام به في الشرق الأوسط». وأشار سولانا إلى ما ينتظر العرب بقوله «علينا أن نكون واقعيين». أما نحن العرب فمن يقول باسمنا وكيف يقال باسمنا ما الذي يتوجب فعله لبلادنا؟ وماذا سيكون مستقبل هذه البلدان بعد أن أصبح العراق، والذي كان فخر العرب فكراً وحضارة وتاريخاً، أكبر مصدّر لطالبي اللجوء في العالم؟

لا اختلاف أن بلداننا بحاجة لعمل الكثير من الجهد المخلص الشفاف ولكن هل من السليم استدعاء باريس وواشنطن ورأس حربتهما «إسرائيل» في المنطقة للعبث بمصير هذه الأمة كما يشاؤون ولتقطيع أوصالها تحت مسميات مختلفة وخاصة، «محاربة الإرهاب» التي يراد منها تحقيق أمن إسرائيل؟ ولكن الذي لا خلاف عليه هو أن الأسلوب المعتمد اليوم على الساحة العربية، وخاصة الفلسطينية واللبنانية، هو الطريق إلى التهلكة القومية وليس القطرية فقط. والذي لا خلاف عليه أيضاً هو أن إعادة البعد القومي لفهم قضايانا كفيلٌ باستعادة الرؤية السليمة واستقدام الحلول الناجعة. هناك فرق بين تقصير واضح في الأداء الرسمي العربي وبين فقدان الثقة بالذات والارتماء في أحضان مخطط الأعداء وخدمة هذا المخطط. فرغم كلّ ما يشنّ من حرب على الإسلام كانت مبيعات المصحف الشريف في أعلى مستوياتها في الدنمارك، كما كان اسم «محمد» الرقم الأول في بريطانيا. وها نحن نعلم من خلال عضو الكونغرس المسلم، كيت اليسون، أن الرئيس الأميركي الثالث، توماس جيفرسون، والذي هو أحد أهم الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، كان يحتفظ بنسخة من المصحف الشريف ضمن كتبه الأثيره. فإذا كانت الشجرة المثمرة هي التي ترمى بالحجارة فإن ما تتعرض له هذه الأمة من هجمات دليل على غناها المادي والحضاري والديني والأخلاقي. فهل يمكن أن نطالب النخب السائدة سياسياً وثقافياً أن تستعيد الإيمان بمقدرات أمتها بإعادة البعد القومي إلى كلّ الأفكار والسياسات والإجراءات والحلول اللازمة لمواجهة أزمات الحاضر وتحدياته. آنذاك فقط سوف يدرك الجميع ألاّ خلاف على الذي هم فيه مختلفون!