الصومال: جنايات التشدد في سقوط «المحاكم الإسلامية»

TT

لم تكن المحاكم الإسلامية منذ نشأتها الأولية عام 1994، سببا جوهريا في المشكلة الصومالية، بقدر ما هي جزء من الحلول البدائية التي تظهر في مثل هذه المجتمعات القتليدية كمسكن للأزمة ومخفف لأضرار الكارثة على المجتمع، بعد أن حافظ المشهد الصومالي طويلا على وضعية اللادولة، وتحولت مفردة «الصوملة» إلى مصطلح سياسي يشير إلى التفتت. فمنذ انهيار الحكومة المركزية وسقوط نظام سياد بري، أصحبت العاصمة مقديشو ساحة محكومة بالميليشيات، واختفت الدولة نتيجة فشل محاولات اقليمية ودولية عديدة في إيجاد نظام موحد.

نجاح المحاكم أدهش ببساطة آلياته الكثيرين مقابل فشل حكومة أمراء الحرب، وأكد للعالم امكانية وجود حلول للمأزق الصومالي، بعد أن استطاعت بإمكانيات متواضعة من سد مسألة الفراغ الأمني والقانوني والحد من سرقات وقدرات زعماء العصابات لحماية ضعفاء المجتمع منهم. ظهور فعاليتها على الأرض ساعد التجربة على الانتشار، ومع شعور الناس والمجتمع بتجرد ونزاهة تلك المحاكم حيث كانت أكثر مصداقية في توزيع المساعدات والإغاثة الخارجية، فتزايد الالتفاف حولها، وتضاعف عدد المحاكم، وأصبحت شبكة كبيرة، لتشكل قوة دينية وعسكرية بتحالف فئة التجار ورجال الدين، حيث يرتبط أكثرها بقبيلة واحدة، مع وجود بعض المحاكم المستقلة عن اتحاد المحاكم الاسلامية ثم اندمجت في كيان واحد عام 2004. انضم اليها أيضا عسكريون صوماليون سابقون، وعدد من أمراء الحرب، بعد نجاحها في القضاء على الفوضى، والاعتداء على الأموال، وبهذا المنجز اصبحت تمثل قيادة طبيعية من داخل المجتمع.

نجاحاتها غير المتوقعة التي فاقت قدراتها الخاصة، حولتها سريعا إلى حركة سياسية وعسكرية، فمن الخطأ جعلها نسخة مطابقة للحركات الإسلامية الكبيرة، من دون مراعاة ظروف النشأة وكثير من المعطيات التي تجعل لها خصوصية محلية تختلف في بعض خصائصها عن مكونات حركات اسلامية معاصرة شكلت فكرا سياسيا متأثرا بمشكلات وحياة المدن أكثر من حياة الريف، الذي تختفي فيه مكونات المجتمع المدني وغياب الأحزاب السياسية والنقابات. كان طابعها الشعبي والبعد القبلي والديني التقليدي حاضرا منذ البدايات قبل التحول إلى حركة سياسية وعسكرية، لهذا يصعب ربطها مباشرة بصعود موجة حركات الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي.

هناك آراء حاولت وضع حالة تطابق في الصورة بين المحاكم وطالبان. وإذا تجاوزنا بعضها الذي لا يخلو من تحامل مكشوف خاصة في الاعلام الغربي للاستفادة من الانطباع السيئ عن طالبان، الذي جاء مع الحملة العالمية ضد الارهاب، فالواقع أن التشابه المعتبر جاء من السياق والظروف التي أحاطت كلا منهم، باعتبارهم قوة تعوض غياب الحكومة المركزية والأمن لسنوات طويلة، إضافة إلى المرجعية الدينية التقليدية التي تجد قبولا في مثل هذه المجتمعات. لكن المبالغة في تصوير هذا التشابه لا تخلو من مغالطات عديدة، تفرضها طبيعة الوضع الأفغاني الاستثنائي الذي تشكل وفق ظرف دولي مختلف كانت فيه أفغانستان ساحة مواجهة عالمية في الحرب الباردة، والتقت فيها مختلف الحركات والتيارات الإسلامية، وكانت مسرحا لنشاط وصراع استبخباراتي كبير. انتصارات المحاكم المتتالية وضعف الحكومة الانتقالية أغراهم بالتوسع السريع، وأظهر صوت التطرف والعناد السياسي، حيث كانت الحكومة في ذلك الوقت تشير الى رغبتها في أجراء حوار مع قيادات المحاكم، لكن رفض بعضهم لمثل هذه المناشدات. الاستمرار في اثارة أثيوبيا التي تنتظر مثل هذه الفرصة للتدخل، أدى إلى حدوث هذا الانهيار الكبير، نتيجة غلبة صوت الأقلية المتشددة على الأكثرية المعتدلة.

كثير من النجاحات التي حققتها المحاكم، ونالت بها اعجاب واحترام واسع، تلاشت بصورة دراماتيكية وتحول أبطالها إلى فلول مطاردة على الحدود، هذا النهاية السريعة والمؤسفة، لا يفسرها فقط ضعف الخبرة السياسية لدى قيادات المحاكم، وإنما جناية التطرف في المراحل الحاسمة، حيث كان بإمكانهم استثمار هذا المنجز من خلال وضعهم التفاوضي الأفضل على الأرض قبل أسابيع قليلة. أحداث كثيرة تؤكد أن مشكلة الحركات الإسلامية ليست في نقص الخبرة السياسية، وإنما انتصار صوت التطرف والتشدد الفكري في اللحظات الحرجة والمحطات الساخنة التي تحتاج فيها كل حركة إلى قرارات تاريخية، ومواقف مصيرية تتخلى فيها عن مثاليات وأوهام المتشددين، فمع أن غالبية قيادات المحاكم هم من المعتدلين، إلا أن الأقلية المتطرفة أخذت تؤثر على سياساتها في الأشهر الأخيرة، وأدى الارتهان للمواقف المتطرفة إلى فقدان المرونة السياسية، وتحطم التجربة بهذا النهاية التي تشبه انهيار حكومة طالبان التي غلب فيها أيضا صوت التطرف، وفقدت بذلك بعض من وجهها الإيجابي في بدايات ظهورها في المشهد الأفغاني، عندما فشلت مختلف الفصائل الأفغانية في تحقيق الأمن، ولم يتبق في الذاكرة سوى مشاهد طريفة للتضييق على الحريات الفردية داخل المجتمع تحت مسمى الحسبة الدينية.

مشكلة غلبة صوت التشدد ليس في كونه سببا جوهريا لمثل هذه النهايات المتوقعة في أي حراك سياسي فقط، وإنما دوره في تشويهه الصورة العامة التي تختزل المنجز في بضعة مشاهد غريبة في التسلط الاجتماعي يمارسه متشددون، عندما أقفلت مقاه كانت تبث البرامج رياضية عالمية ومتابعة مباريات كرة القدم، ومع إغراءات التوسع زاد نشاط المتشددين في الصفوف فأغلقت صالات العرض السينمائي، وحظر للتدخين. الثقافة الكونية المعاصرة في وجهها الإعلامي، تحرص على تسويق مثل هذه المشاهد النادرة، وما تحمله من مضمون ساخر، أكثر من تسويقها للمنجز الأمني في مطاردة اللصوص وقطاع الطرق، ليس لأن الأمن غير مهم، وإنما لأن محاربة السرقة وملاحقة عصابات الإجرام لا يوجد فيها أي مفارقة أو اثارة، فالناس بمختلف ثقافاتهم ومجتمعاتهم يدركون أن المجرم واللص يستحق المطاردة والعقاب، فليس هناك ما هو جديد أو مثير. بالمقابل اقفال مقهى يعرض مباريات كأس العالم لسبب ديني، يعتبر صيدا ثمينا للمراسلين والإعلاميين ويبقى في الذاكرة طويلا لغرابة مثل هذه الممارسة، وما تقدمه من تساؤلات محيرة وتعليقات ساخرة عن طبيعة وفكر هذه مثل هذه الحركة.

التطورات الأخيرة مع أنها قد تبدو انفراجا في الأزمة، وعودة للحكومة الانتقالية للسيطرة على مقاليد الأمور، إلا أن الطريقة التي جاءت بها الحكومة والمدعومة بتدخل أجنبي أثيبوبي من خصم تاريخي للصومال ودعم أمريكي، قد يجعل الأمور تعود إلى المربع الأول، إلا إذا تمكنت الحكومة من إدارة الوضع بعقلانية وبعيدة عن روح الانتقام. فعناصر المحاكم الإسلامية ليسوا مجرمي حرب، لهذا يفضل تشجيعهم وإغراؤهم في العودة، حتى لا تتطور ردة فعلهم إلى عمليات مقاومة ويتزايد أنصارها، ويعاد الإسلوب العراقي مرة أخرى، خاصة أن بعض القياديين لا زالوا يرون أن الحرب لم تنته، وأنهم سيشنون عمليات مرهقة وتفجيرات مختلفة. ومع أنه لم يثبت أي علاقة للمحاكم بتنظيم القاعدة، إلا أن وضعهم الحالي، وتصعيد مطاردتهم مع نداء الظواهري الأخير لدعمهم قد يعيد الوضع إلى الحالة التي لا يرغبها الصوماليون ولا المجتمع الدولي، وتتحول الساحة الصومالية إلى بؤرة معززة لصرعات أكثر تأزما مع وجود تناقضات إقليمية مشهورة في القرن الإفريقي. الوضع شديد التعقيد ومتعدد الولاءات، فعلى الحكومة الحالية ألا تقع بخطأ المحاكم ويغريها هذا النصر السهل بدعم أجنبي غير مرحب به شعبيا.

هذه فرصة جديدة ليست لتصعيد الحرب والمطاردة من حكومة ضعيفة في الأصل وجاءت بدعم خارجي، وإنما لإعادة التواصل مع الآخرين، وتعزيز الحوار من خلال عملية سياسية شاملة، واشراك للمحاكم قد تقود إلى الاستقرار، عن طريق محاولة التوصل إلى صيغ توافقية وتنسيق دولي، تأخذ بعين الاعتبار توازنات القوى السياسية المحلية والخارجية.