عندما يأتي المساء

TT

لم اعد اتذكر لون الحياة وطعمها قبل ان يدخل الكمبيوتر حياتي ويتربع على عرشها كرفيق وأنيس ومنقذ ومعلم. اتذكر فقط انني قاومت وجوده ما استطعت اقناعا لنفسي بأن علاقتي مع الورق والقلم غير خاضعة للتفاوض او للتبدل. كنت اختبئ وراء خوفي. اخاف ان هجرت القلم هجرني وان لم تملأ حواسي رائحة الورق ظلت افكاري حبيسة لا تلبي النداء.

ولكني نازلت خوفي وانتصرت عليه. واصبحت علاقتي مع الكمبيوتر هي نقطة الذروة في ساعات الصباح. أبدأ بقراءة الرسائل واصنفها. ويعز علي ان الغي وجودها بضغطة زر خاصة تلك الرسائل التي تحمل معنى او فنا او فكاهة او معلومة او وجهة نظر كانت غائبة عني. ولذلك اصبحت امتلك رصيدا كبيرا منها.

طالعتني اليوم رسالة من صديقة قرأتها مرارا ربما لأنها ذكرتني بأمي رحمها الله. بعد ان قرأت الرسالة قررت ان تشاركوني معانيها ولكنني ترددت خوفا من ان اتهم بتحريض النساء. ورغم ذلك عزمت.

تروي الرسالة طرفة على لسان ابنة تقول:

ذات ليلة كانت امي جالسة مع ابي في غرفة المعيشة امام التليفزيون. فإذا بها تقول لأبي ان الوقت قد تأخر وانها تشعر بالتعب ولذلك سوف تأوي الى الفراش. لم يرد ابي بل تابع المشاهدة.

قامت امي ودخلت الى المطبخ وغسلت فناجين الشاي وجففتها واعادتها الى مكانها. ثم فتحت الثلاجة وخزانة التبريد واخرجت بعض اللحم المجمد لكي يذوب عنه الثلج فتطهوه لغدائنا في اليوم التالي. ثم نظرت الى السكرية فوجدتها فارغة فملأتها بالسكر. ولمحت بطرف عينها اناء مليئا بالثياب المبتلة فوضعتها في المجفف الكهربائي.

وتداعت افكارها فقررت ان تكوي قميصا لأبي واخر لاخي لكي يكونا جاهزين في الصباح.

في غرفة المعيشة قررت ان تجمع الالعاب المبعثرة على ارضية الغرفة وتعيدها في الصندوق الكبير المخصص لها ثم الى ان تحتاجه في الصباح لتسلية اخي الطفل اثناء قيامها بالاعمال المنزلية.

تنهدت امي بارتياح ثم تذكرت الهاتف النقال وانه لا بد من اعادة شحن البطارية فأوصلته بالشاحن الكهربائي. وبينما هي تفعل لاحظت ان نبات الظل المستقر على قاعدة شباك الغرفة يبدو ذابلا فعادت الى المطبخ وملأت قارورة بالماء لسقي النبات. وبعد ان سقته لاحظت ان السلة المخصصة لجمع الاوراق والنفايات الصغيرة مكتظة فحملتها لكي تفرغ محتوياتها في سلة النفايات الكبيرة.

وبعد ان اعادت السلة الى مكانها المعتاد تذكرت ان يوم غد هو عيد ميلاد جارتنا السيدة...... ولكي لا تنسى قررت امي ان توقع بطاقة التهنئة وتكتب رسالة قصيرة للجارة. بحثت عن البطاقة والقلم في الجارور ووضعت البطاقة في مكان ظاهر على الطاولة لكي لا تنسى تسليمها في الصباح.

ولا شك ان الامساك بالقلم ذكرها بأمر جديد لأنها بحثت عن ورقة وقررت ان تكتب قائمة بالأشياء المطلوبة من السوبرماركت في الصباح. كتبتها ووضعتها بجوار بطاقة التهنئة.

بعد ذلك صعدت ودلفت الى الحمام حيث نظفت اسنانها واستخدمت كريم الوجه المضاد للشيخوخة واستعدت للفراش.

عند هذه النقطة قال ابي بصوت عال رغم انه كان بمفرده في غرفة المعيشة: انا متعب والافضل ان اخلد للراحة. وضغط على زر التلفزيون واتجه الى فراشه رأسا. قبل ان اتهم بتحريض النساء اذكر بالمثل القائل اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لامها. ورغم ان امي الحبيبة لم تكن لا كاتبة ولا صحافية ولا موظفة فأنا مثلها اطهو الطعام بمزاج عال واحمل اطنانا من الثياب من والى المجفف الكهربائي ويعز علي ان تكون السكرية فارغة او فناجين الشاي غير نظيفة. وحين يصفني زوجي بالنحلة الخفيفة أرى في عينيه معنى يرضيني.

وأخيرا: هذه الطرفة كتبتها انثى. وكم اتمنى ان تصلني طرفة يكتبها ذكر تحمل احساسه بامرأته وبالحياة.