وأعادنا الكون أصغر مما نتخيل!

TT

كانت الدنيا كبيرة ونحن صغار، صارت الدنيا صغيرة ونحن كبار.. ثم صرنا صغارا جدا والكون كبير.. فكنا نقول ان فلانا ابوه اكبر من العسكري.. او هو العسكري. وكان العسكري هو أكبر وأهم انسان فى حياتنا.. ولما كبرنا قليلا قلنا: انه أكبر من الضابط.. ثم لا أحد اكبر من الملك.. وكنا نرى الشوارع واسعة جدا طويلة جدا.. والميادين أوسع من ميدان الكونكورد في باريس والتحرير في القاهرة..

وعندما ابتعدنا عن الريف وعدنا اليه وجدنا الشوارع كالحواري ضيقة والميادين خانقة.. وكنا نتوهم ان الانسان يحتاج الى شجاعة لعبور الشارع لاتساعه وكثرة المشاة والسيارات. وعدنا نراه لا يزيد على خطوات قليلة وكذلك الميادين.. فقد كانت كبيرة ونحن صغار، ولما كبرنا وانتقلنا الى مدن أكبر وأوسع صغرت المقاييس في عيوننا.

وعندما عدت الى مدرستي بعد عشرات السنين لكي اشارك في وضع تمثال لي بالقرب من المدرسة، اندهشت كيف انها صغيرة هكذا. وكيف غرفها صغيرة ومساحاتها ايضا. وكنت أراها شاسعة وكيف ان الفصول الدراسية كانت في حجم المدرجات الجامعية.. وعندما ذهبت الى كلية الآداب ألقي محاضرة بعد تخرجي بعشرات السنين، أدهشني أن المدرجات صغيرة وليست في اتساع استاد القاهرة كما كنت أتصور.. وفي يوم لم أجد تفسيرا لما رأيت. عندما تطلعت الى أمي ـ يرحمها الله ـ فوجدتها بيضاء اكثر مما كنت أتصور ووجدت عينيها عسليتين ولم يكن لونها اسود. وهي متوسطة القامة وكنت اراها طويلة عملاقة. وكانت أمي تؤكد انها ترى النجوم نهارا وأن أحدا لا يجاريها في قوة الابصار الا ابنة خالة لها. وكانتا تتسابقان في القدرة الفريدة على رؤية الاشياء البعيدة جدا. مثلا كنا نسكن في شارع ينتهي بساعة في ميدان. والمسافة بيننا وبين الساعة حوالي نصف كيلومتر. وكانت أمي تستطيع ان تميز عقارب الساعة. وكان بعض الاقارب لا يصدقونها. ثم لجأوا الى امتحان. فأتوا بسلم وفتحوا الساعة وحركوا عقاربها. ورأتها أمي وقالت: ان الساعة كذا والدقيقة كذا. وكانت أمي تقول: إنني ادعو الله ان يعطيك نظري ويعطيني نظرك فأنت أحوج مني الى ذلك!

شيء غريب كنت اقول ان عددنا عشرة من الاخوة. والحقيقة اننا احد عشر. ولم أفهم معنى هذا النسيان. وعرفت فيما بعد انني لا احب احد اخوتى لأنه قد رفع صوته على أمنا.. ورغم انه بعد ذلك كان ألطف وأظرف. ولكني لم اتصالح معه. وكنت انساه. فقد كنت صغيرا لم اتعلم معنى التسامح والنسيان.

وفي يوم زرت مع أبي احد أقاربه وكان يعمل في مصلحة المساحة. وعلى مكتبه رأيت الكرة الارضية لأول مرة. واقتربت واقتربت.. وجاء والدي ووضع اصبعه على الكرة الارضية فغطت إصبعه مصر والسودان وليبيا والبحر الاحمر وسيناء. ونظر ناحيتي وقال هذه المساحة الخضراء هي مصر.. وأدار الكرة الأرضية يمينا وشمالا.. يعني ايه؟

يعني هذا مكاننا من كوكب الارض.. ولما رأيت (القبة السماوية) ورأيت الارض مثل حبة زيتون في مساحة هائلة من النقط البيضاء والبقع الصفراء والحمراء. أي ان هذا جانب من الكون الكبير جدا.. والذي ترامت ـ بمرور الوقت ـ حدوده المكانية والزمانية الى ما لا نهاية له ـ لقد عادت الدنيا اكبر في خيالنا وعدنا صغارا في واقعنا!