ليست استراتيجية جديدة.. بل (ركض جديد في الوحل)

TT

هذه فرصة جديدة قد لاحت لـ (العقل السياسي والامني والاقتصادي) في المنطقة، فهل يحسن الحريصون على اوطانهم ومستقبلهم على استثمار هذه الفرصة بعبقرية وشجاعة وبُعد نظر وحسابات تخلو من الخطأ القاتل او ـ على الأقل ـ تقلل من الخطأ في الحسابات: الى ادنى درجة؟

ما هذه الفرصة؟

الفرصة هي إقرار رأس السلطة في الادارة الامريكية بأن هذه الادارة ارتكبت اخطاء فادحة متتالية في العراق.. وبينما كان الصحيح النافع هو: ان تكون هذه الادارة هي (اول) من يعترف بهذه الاخطاء إلا انها كانت (آخر) من يقر بذلك ويعلنه.. وهذا البطء او التباطؤ: خطيئة إضافية.

واول استثمار ذكي ومسؤول لهذه الفرصة: استعادة استيعاب (فداحة الاخطاء) التي ارتكبت. ذلك ان الاستيعاب النسبي موجود ويعيه المواطن العادي في المنطقة بل في العالم.. اما (الاستيعاب الكامل) فهو المطلوب. وإلا فإن النقص في الاستيعاب سيؤدي ـ بلا ريب ـ الى مداهنة جديدة لهذه الادارة على اخطاء جديدة وقاتلة: تركض بالجميع الى كوارث ومآس تشقي الحاضر، وتمتد بشقائها المدمر الى ازمان متطاولة في المستقبل.

ينبغي الاستيعاب الكامل ـ والضروري ـ لخطايا الادارة الامريكية وجنونها.. وفي طليعة هذه الخطايا:

1 ـ خطيئة غزو العراق فهو غزو بني على (كذبة) ضخمة سافرة.. وما بني على الكذب لا يمكن ان يكون صحيحا ولا صوابا.. ماذا بقي من العقل والضمير والقانون والحضارة و(الآدمية): إذا احتُل بلد وهُدم بنيانه ومات مئات الألوف من الناس بناء على (كذبة)؟!

2 ـ خطيئة ادارة العراق وتصريف شؤونه في الحقبة التي اعقبت الغزو وامتدت حتى الآن. وادق وصف لاحوال العراق بعد الغزو هو (الفوضى الشاملة): المدمرة المجربة: لا البناءة ولا الخلاقة!!. نعم.. هي فوضى شاملة في الامن.. والاقتصاد.. والنسيج الاجتماعي والسكاني للشعب العراقي.. وفوضى شاملة في مجال حقوق الانسان: من سجن ابو غريب الى ذبح الناس والتمثيل بهم في الشوارع.. وتمكين الميليشيات من تنفيذ احكام الاعدام!.

3 ـ وخطيئة (الاستكبار) المتمثل في (عدم استشارة اهل المنطقة) في شؤون تؤثر ـ بعمق ـ في حاضرهم ومستقبلهم: السياسي والامني والاقتصادي.

هذه الخطايا المركبة المهلكة ـ بالمفهوم المادي والمعنوي للتعبير ـ يلزم اهل المنطقة ان يفتحوا عقولهم وضمائرهم وملفاتهم السياسية والامنية والاقتصادية لاجل استيعابها.. اولا: لأخذ العبرة مما حدث.. وثانيا: لان هذه الادارة لا تزال تكرر ذات الخطايا على الرغم من الاعتراف ببعضها. والبرهان على استئناف الركض في ذات الطريق الموحلة: هذا التخبط الجديد الذي سموه (استراتيجية جديدة).

وعماد هذا التخبط الجديد:

أ ـ مزيد من الجيش الأمريكي إلى العراق.

ب ـ مزيد من التوحش في القصف والضرب والتنكيل.

ج ـ مطالبة الدول العربية المعتدلة ـ بمفهومهم هم!! ـ بدعم حكومة المالكي في العراق.

د ـ الادعاء بأن عدم تقديم الدعم لهذه الحكومة سيؤدي الى هزيمة أمريكا في العراق.

هـ ـ ان هزيمة امريكا: تهديد لمستقبل الدول العربية المعتدلة.. وتهيئة المناخ لارهاب أوسع وأعنف.

و ـ مزيد من كهربة الأجواء والعلاقات بين ايران وبين دول عربية مهمة في المنطقة.

في حقيقة الأمر: هذا ركض جديد في الوحل. ومن الكذب الاعلامي، والتضليل السياسي: تسميته (استراتيجية جديدة).

وللتدليل على ان ما طرح (ركض جديد في الوحل): نبدأ بـ (رؤية أمريكية) رفضت وانتقدت ـ بشدة وحدة ـ هذه الخطيئة الجديدة التي وصفت بالخطة الجديدة:

1 ـ 61% من الشعب الامريكي يرفض هذه الخطة.

2 ـ الديمقراطيون أصحاب الاغلبية في الكونجرس رفضوا هذه الخطة ووصفوها وصفا بالغ الخطورة والرهبة. وصفوها بأنها (تهديد للأمن القومي الامريكي).. وينبغي ان يأخذ العرب هذا الكلام مأخذ الجد: ليس تحسبا للمستقبل، بمعنى ان الديمقراطيين قد يفوزون في الانتخابات الرئاسية عام 2008، وانما لأن هؤلاء العرب ـ اذا وافقوا على خطة هذه الادارة المتوحلة ـ يكونون قد شاركوا في تهديد الأمن القومي الامريكي أو يمكن ان يتهموا بذلك.. وليس من الذكاء: التطوع بما يجلب الاتهام.

3 ـ هناك جمهوريون برلمانيون يعارضون الخطة.

4 ـ ثمة نخب امريكية في مختلف المواقع المدنية تعارض ركض بلادها من جديد الى كوارث مركبة ماحقة.

5 ـ والدلالة الأبرز والأعمق في (الرفض الامريكي) هي: أن قيادات عليا في الجيش الامريكي تعارض بصلابة هذا التورط الجديد، وهي معارضة مستندة الى (قيمة عسكرية). بمعنى ان هؤلاء العسكريين المعارضين يقولون: ان هذا التهور ينتهي بكارثة تضرب ـ في الصميم ـ شرف الجيش الامريكي وهيبته.

فليعرف عرب من العرب ـ معرفة رصانة ومصلحة وبعد نظر، لا معرفة فهلوة وخفة ـ: ليعرفوا انه ليس من العقل ولا من احترام الذات: ان يكونوا امريكيين أكثر من الامريكيين أنفسهم: أكثر أمريكية من الاغلبية الديمقراطية، ومن أصوات قوية في الحزب الجمهوري، ومن قيادات عسكرية في الجيش الامريكي، ومن نخب مدنية واسعة.. نعم.. نعم. ليس من العقل ولا احترام الذات ان يكون عرب من العرب أكثر (أمريكية) من 61% من الشعب الامريكي نفسه!. وإذ قدمنا الرؤية الامريكية الواضحة في رفض هذا التخبط الجديد، فإننا نقفّي على ذلك برؤيتنا.

ان هذه الخطة (أقرأها الركض الجديد الأوسع في الوحل) تعمدت (اجهاض) رؤية تقرير (بيكر ـ هاملتون) الذي اقترب من الصواب في كثير من جوانبه (بمقياس الأمن القومي الامريكي نفسه لا بمقياس ايران أو كوريا الشمالية أو أسامة بن لادن أو شافيز).. اقترب هذا التقرير من الصواب والواقعية في ايجاد مخرج مشرف للولايات المتحدة من ورطتها في العراق.. وبدهي ان يعمل التقرير لأجل ذلك. فأبرز مهندسيه هو جيمس بيكر الجمهوري العريق، ورفيق درب كفاح جورج بوش الأب، والمعروف في الأوساط الامريكية المختلفة بأنه (حلال) مشكلات.. فالرجل ليس موضع شك في حرصه على الأمن القومي لبلاده، ولا موضع شك من حيث خبرته وقدرته، عيبه الوحيد ـ ربما ـ هو: استقلاله عن (لوبي المحافظين الجدد)، وعن الفلك الذي يدور فيه هؤلاء وهو (لوبي غلاة الصهيونيين والمسيحيين المتعصبين).. ولو كان هناك عقل لدى هذه الإدارة وحرص على الخروج من المأزق (لا يشوبه كبر أو عناد) لما ترددت في استثمار ما جاء في تقرير بيكر هاملتون، بيد انها عمدت الى إجهاض التقرير من خلال خطة التخبط الجديد، فكان ما كان.

المحور الثاني في نقد هذا التخبط المزيد هو: ان (العضلات العسكرية) لا تحل الأزمات السياسية. وإنما الذي ينهي الازمات السياسية (عبقريات سياسية) ذات قدرة عالية على التفنن في إيجاد الخيارات السياسية والدبلوماسية المتنوعة والتي يُعد أي خيار منها مخرجاً عاقلا وصائبا وحافظا للكرامة.. هل جهلت هذه الإدارة أن الحلول العسكرية لم تنفع هتلر، ولم تنقذ أمريكا من فيتنام ولم توفر لإسرائيل لا أمنا ولا سلاما، ولم تنقذ إدارة بوش نفسها من الوحل في العراق: منذ غزو العراق والى يوم الناس هذا.

المحور الثالث في نقد أو نقض هذه الخطة: الطلب الى دول المنطقة ودعم حكومة المالكي في العراق.. أي حكومة يدعمون هؤلاء العرب (المعتدلون) ـ وفق التصنيفات الامريكية المزاجية ـ؟.. لقد ثبت بعشرات القرائن: ان هذه (حكومة طائفية): بالمعنى السياسي الدقيق للتعبير، وانها ضبطت متلبسة بهذه الآفة غير مرة، وفي صور متنوعة: ليس آخرها عقد صفقة بينها وبين مليشيا معينة تظفر الأخيرة بموجبها بممارسة الانتقام والثأر في عملية إعدام صدام حسين.. وهل تعني المطالبة بدعم حكومة طائفية: ان الإدارة الأمريكية قد انحازت إلى طائفة معينة في العراق؟.. وهل هذا الانحياز هو (الاستراتيجية الجديدة) التي ستنهي أزمات العراق؟.. ثم هل تعني المطالبة بحكومة طائفية: تفجير الأرض تحت أقدام الحكومات التي تقوم بهذا الدعم؟.. وهل يدخل هذا التفجير في (نظرية الفوضى الخلاقة) التي يجري تطبيقها ـ بعد العراق ـ في لبنان.. وفلسطين.. والصومال.. و...و..؟.

المحور الرابع في التحذير من المشي في طريق التخبط والجنون: انهم قالوا: ان هزيمة امريكا في العراق تعني تهديد أمن ومستقبل دول معينة في المنطقة، كما تعني إيجاد مناخ أوسع للارهاب والإرهابيين في المنطقة.. ونحن نعجب لاناس في دولة بلغت ذروة التقدم في البحث والتعلم والحضارة: نعجب منهم وهم يقولون كلاما بينه وبين (العقل) أمد بعيد.. ان ما يهدد أمن الدول والشعوب ـ في حقيقة الأمر ـ هو السياسات الأمريكية، الخاطئة بل المجنونة التي تفتي في شؤون المنطقة، وتتحرك في ساحاتها دون ان تتشاور مع أهلها الذين هم أبقى من أمريكا فيها (المقصود ليست المشورة البعدية)!!.. ولهذا التهديد الرهيب مصادر شتى منها: النزعة الايدلوجية لدى هذه الإدارة وهي نزعة رفعت ـ بحدة ـ معدلات التوتر الديني.. والتأييد المطلق لباطل اسرائيل وعدوانها.. ودق أسافين الفتن في العراق، وفلسطين، ولبنان.. وتعويق جهود السلام فقد قال زعيم دولة عربية ـ مدعوة لدعم خطة التخبط الجديد ـ. قال: «ان امريكا تعطل جهود السلام بين سوريا وإسرائيل».. ويلحق بهذا المحور مقولة: ان هزيمة أمريكا في العراق تؤجج سعير الارهاب في المنطقة.. ما هذا الاستخفاف بالعقول؟.. هل الناس الذين يسمعون هذا الكلام مجانين أو بُله.؟.. ان الذي فتح العراق للارهاب والعنف: معروف غير مجهول: فتح العراق للارهاب بالغزو أولاً.. ثم بممارسات الاحتلال وتداعياته ثانياً. وقد قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك منذ أيام: «ان غزو العراق أوجد أفضل المناخات وأوسعها للعنف والإرهاب».. وهذه حقيقة سياسية وايدلوجية ولوجستية.. وفي ظل هذا الاستخفاف بالعقول يُلمّح لنا: ان امريكا تستعد لمواجهة إيران لكي يستقر الوضع في العراق.. كيف؟!!.. كيف تواجه امريكا ايران وتهزمها في العراق. بينما حكام العراق الآن هم أقوى حلفاء ايران ـ العقديين والسياسيين ـ في المنطقة؟!

ماذا يعني ذلك كله؟.. هل نحن ضد ان تبذل امريكا جهودا لتنقذ نفسها مما فعلته بنفسها في العراق؟.. لا.. طبعا. والدليل على (لا) هذه: أننا وجهنا لهم نصحا كثيرا في هذا المكان. منه ـ على سبيل المثال ـ مقال الخيارات الثلاثة امام الولايات المتحدة.. بتاريخ 1/11/2003. وتلك الخيارات المقترحة هي: الاستمرار في الكدح في الوحل.. أو خطوات جديدة مجنونة.. أو مخرج عقلاني يتمثل في تقويم الموقف واتخاذ سياسات جديدة أعقل وأرشد.. ومن اهم هذه السياسات: صم الأذنين عن نصائح الغلاة في واشنطن والغلاة في العراق. نحن مع المخرج والحل: بشرط ان يكون المخرج من الوحل مشيا على اليابسة، لا ركضا جديدا مجنونا في وحل أوسع وأشد سَحبا للأرجل إلى أسفل.