العراق: ما هو أبعد من مجرد شجاعة بوش

TT

قل ما شئت عن الرئيس الامريكي جورج بوش، المكروه لدى مشاهدي الفضائيات الناطقة بالضاد، ومعهم مثقفو اليسار الاوروبي المعادي لأمريكا، والمستفز لحلفائه بحماقات رجال اختارهم لإدارته؛ لكنه رجل لا تنقصه الشجاعة والجرأة التي تدعو للإعجاب ـ والشفقة ـ في رميته الأخيرة للزهر عسى ان يكسب رهان تغيير العراق نحو مستقبل افضل.

فبعد أسابيع فقط، من نشر مجموعة بيكر ـ هاميلتون لدراسة العراق تقريرها، تجاهل الزعيم الأمريكي اثنتين من اهم توصياتها على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، وهما: الانسحاب على مدى 15 شهرا، والتفاوض دبلوماسيا مع سوريا وإيران للكف عن العبث في العراق. فبدلا من سحب القوات، قرر بوش زيادتها بـ21500، وتجاهل التوصية الدبلوماسية بتوجيهه إنذارا لإيران وسوريا، كإشارة قوية لالتزامه لحلفائه في المنطقة، ولإقناعهما بتقديم الدعم الفعلي للحكومة العراقية المنتخبة للمرة الأولى منذ عام 1958.

وكما هو متوقع، تكررت مقارانات اليسار بين فيتنام والعراق، واسترجعوا ارسال الرئيس ليندون جونسون لمائة الف جندي امريكي اضافة للقوات الموجودة في فيتنام في نهاية الستينات.

هذه المقارنات غير موضوعية Subjective من جانب اليسار. فالعراق ليس ولن يكون فيتنام. فلا يوجد مقابل لفيتنام الشمالية بجوار العراق بقائد كالجنرال جياب، تحت إمرته نصف مليون في جيش نظامي من الشيوعيين كعمق استراتيجي لتنظيم كامل متسق منضبط ضمن ـ قناعة او قسرا ـ تأييد من الفلاحين. فلا مقابل في العراق للفيت كونج في فيتنام الجنوبية، بل هناك تقسيمات عرقية وطائفية ومذهبية ومليشياتها وليس تنظيم «مقاومة» متجانس الآيديولوجية في العراق الذي استقر شماله الكردي في استقلال فعلي منذ أكثر من عقد كامل.

واليوم ينمو رأي عام ضد الحرب في العراق (ستة من كل 10 امريكيين)، وضغوط من مجلسي الكونغرس بالانسحاب، والتفاوض مع ايران وسوريا، لكن الرئيس بوش، وبشجاعة، رفض الضغوط، وقرر ان يجرب مرة أخيرة في محاولة جريئة أن يوقف تدهور الموقف في العراق وانزلاقه نحو حرب طائفية اهلية.

والرئيس بوش يريد منح العراقيين، الذين تواكبت عليهم الديكتاتوريات وخنقتهم الغازات الكيماوية منذ اطاح العسكر بالشرعية الدستورية عام 1958، فرصة لاعادة بناء بلادهم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. ونحو هذا الغرض، منحهم مليار دولار دعما انشائيا لبناء المرافق، وخلق فرص عمل تبعد الشباب عن الجماعات الارهابية والمليشيات المسلحة وفرق الموت.

ورفض بوش التفاوض مع الأمتين المتهمتين بزعزعة الاستقرار، كما فعل نيكسون.

فالحرص على استقلالية القرار العراقي ـ رغم تحفظي على اخطاء حكومة نور المالكي وسوء ادارتها للعملية السياسة – يعني الا يمنح العالم، سوريا وإيران تفويضا دوليا بالتدخل في شؤون العراق وإدارته، ويحفظ للعراقيين وحدهم حق اختيار حكومتهم ديموقراطيا وتغيرها عبر صناديق الاقتراع، وهو امر غير معروف في الدولتين المذكورتين (الانتخاب المباشر في ايران ليس ديموقراطية بالمعنى المعروف لأن النظام الشمولي لا يسمح بحرية الاختيار الفردية، ويشترط الملالي ورجال الدين اقتصار الترشيح على الخاضعين لآيديولوجية الجمهورية الاسلامية وولاية الفقيه فقط لا غير).

كما انه من غير المعقول ان تقبل دول الجوار في المنطقة العربية، وجارتا العراق، الأردن وتركيا، ان تغادر امريكا وقوات التحالف العراق، دون ان تغلق في وجه ايران الباب الذي فتحته بأخطاء سياستها، وجعلت الطريق امامها مفتوحا لتعيث فسادا في الجانب الغربي من الخليج وتزعزع استقراره.

ربما يمكن فقط، في حالة موافقة الحكومة العراقية المنتخبة التالية، وليس الحالية، اولا، وبقية بلدان المنطقة المعنية، خاصة جيران العراق، يمكن ان تحضر ايران وسوريا، مؤتمرا اقليميا في بغداد بين دول الجوار ودول قوات التحالف والأمم المتحدة، لتأمين ودعم وضمان استقرار العراق وعدم التدخل في شؤون البلاد، وتوفير الدعم اللازم لرخاء جميع ابناء الأمة العراقية دون تكليفهم بدفع ثمن للجارتين.

وهناك طبعا شكوك كثيرة في امكانية ان تؤدي زيادة 21 الف جندي الى حسم الموقف في العراق، وتأمين بغداد والمنطقة الوسطى اولا. فالسياسة الناجحة لاحتواء حركة تمرد عنيفة Counter Insurgency Strategy تتطلب نسبة 20 جنديا لكل الف من السكان، اي 250 الف جندي اضافي من قوات التحالف، وهو امر غير واقعي، سواء ماديا، او سياسيا للرئيس بوش (استطلاع لمجموعة مجلات وصحف القوات المسلحة الامريكية اشار الى ان أكثر من 52% يعارضون ارسال مزيد من القوات وحرب العراق، مقابل 34% يؤيدون الزيادة، وهو عكس ارقام استطلاع مشابه قبل عامين).

لكن نشر 50 الفا من القوات (مشاة ومدرعات وطائرات هليكوبتر مقاتلة ومظلة جوية توفرها القوة الجوية الحالية) يمكن ان يكسب معركة بغداد ومنطقة المتاعب الوسطى والشمالية عسكريا وسياسيا.

فتجربة القوات البريطانية في «عملية سندباد» المستمرة في البصرة لاعتقال المخربين ومصادرة السلاح، تتم بنجاح بمزيج من التعاون بين القوات العراقية، والحصول مقدما على معلومات استخباراتية دقيقة، حيث يتحرك طابور مشاة مع مصفحات في الفجر، بغطاء جوي، ويداهم الأوكار ويعتقل المخربين، بدون اشتباكات تذكر وبدون اية خسائر بين المدنيين. وهذا درس للامريكيين والقوات العراقية (فقد بالغ جنود امن عراقيون في العنف واهانة المدنيين) لأن الهجمات من الجو دون معلومات استخباراتية دقيقة 100% ستوقع خسائر بين المدنيين، وتوغر صدور الناس فتسهل على المليشيات وعصابات العنف تجنيد المزيد.

وميليشيات، كجيش المهدي، رغم قسوتها وبطشها بالمدنيين، لا تملك من الكفاءة القتالية ما يجعلها ندا لقوات التحالف وقوات عراقية عالية التدريب، كما ستعجز عن الحاق خسائر بكتائب مصفحة. لكنها لاتزال تشكل التحدي الرئيسي لخطة الأمن العراقية الجديدة، خاصة وان قوات التحالف المخصصة هي اقل من نصف ال 50 الف المقترحة.

وهناك بالطبع إشكاليات أخرى منها انتشار الفساد بين قوات البوليس وبعضها مخترق من المليشيات، مما سيتطلب تطهيرها وتدريب كوادر جديدة ـ ولنا أن نذكر هنا أن القوات البريطانية اضطرت الى هدم مركز بوليس تحول وكرا لفرق الموت «وأبو غريب» آخر للأبرياء. ويصعب تطبيق الخطة الأمنية وتوفير المعلومات الاستخباراتية، في مشكلة نزع سلاح المليشيات وتفكيكها بدون شرطة نظيفة اليدين والقلب. وهذه مهمة الحكومة العراقية، خاصة والوقت ليس في صالحها، وعليها الإسراع بتعاون يتجنب الانتماءات الطائفية والمذهبية لتنظيف البوليس وتدريب الجيش، فتراخي حكومة بغداد واعتمادها على قوات التحالف، قد يفاجئها بما لا تشتهيه رياح الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتغييرها للملفات في المكتب البيضاوي بعد عامين بالضبط.