العرب: في أي قرن يعيشون اليوم؟

TT

بمراجعة أدبيات العالم العربي نلاحظ أن العمل الثقافي قد شكل من نفسه واجهة تصد عن أوطانه وعروبته الاختراقات المضادة، فيكون من الإجحاف حقاً الادعاء بانحطاط هذا الجانب من حياتنا، وهو أمر لو دققنا فيه لوجدنا أنه شبه متواتر في تاريخنا، فعادة عند تراجعنا السياسي والاقتصادي والأمني، ترانا نلجأ إلى خط الدفاع الثقافي نبثه شكوانا وتحليلاتنا واستنتاجاتنا، فمتى كان التألق المعرفي لابن رشد وابن خلدون وابن عربي وابن حزم وغيرهم؟ ألم يكن في العهود الأخيرة من تاريخ الأندلس والمغرب، والقوات الاسبانية تتقدم وملوك الطوائف تتساقط! ومتى ظهر جيل النهوض الثقافي من أمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، إلى لطفي السيد وطه حسين والحصري وأمثالهم؟ ألم يكن في زمن وقوع العواصم العربية في قبضة الاحتلال الأوروبي! وماذا حل بنا بعد تاريخ 1967؟ ألم تفرز الهزيمة حركة مراجعة ثقافية تدريجية أعادت التأسيس الفكري العربي وما زالت تتوالى فصولها! فإذا صرفنا النظر عن ظاهرة البكائيات والنواح التي اعتبر اعتباطاً أن ارتفاع نبرتها دليل على موضوعيتنا بعد أن اكتوينا بكتابات تضخيم الذات ومعزوفة إذاعة صوت العرب إياها، ورغم قصيدة في حجم «متى يعلنون وفاة العرب؟» لنزار قباني، ووصف أواخر القرن العشرين بزمن الهزائم العربية، رغم هذا وذاك وسواهما، ينبغي أن نضع إنتاجنا الفكري في إطاره النفسي الطبيعي كرد فعل شعوري حيال الحالة العربية، ولا ننسى كيف أن المشهد «على بعضه» لا يخلو من بناء ثقافي يستحق الإشادة.

على أن هناك حقيقة يجب الحديث عنها وبصراحة، فعند تطور نمو الخطاب الثقافي العربي من خلال النخب دون أن يصاحبه تطور مماثل أو مقارب لجوانب المجتمع الأخرى، تأتي مؤثرات هذه الحداثة الفكرية فتستفز غرائز الجماهير المحافظة، وتدفعها إلى التمرد والاعتصام بالتطرف المخل لفهم الدين، والذي هو مهدَّد من وجهة نظرها، أو بعبارة أوضح، قصور المشروع الوطني التحديثي في استيعاب التجمعات الريفية أو القبلية وإنمائها فكرياً واجتماعياً، بدليل أن أعمال العنف الملتحفة بالدين أكثر ما تنتشر في المناطق النائية والبعيدة عن المدنية، وأي نظام سياسي لا يتقدم مع نظيريه الاقتصادي والاجتماعي سيصل إلى هذه النتيجة، ففي إيران مثلاً وبعد إجهاض مشروع النهوض في حركة مصدق، عمل نظام الشاه على تقديم بديل عصري آخر، ولكنه وحتى مع دفعه للعجلة الاقتصادية إلى حد ما، إلا أنه وبسبب استبداده القمعي وفساده السياسي والبيروقراطي، لم يتماش ما فعله مع تطلعات القوى الاجتماعية والاقتصادية، سواء تلك التي أطلقها أو ساهم في إخمادها، والتي انقلبت عليه بنوعيها وكل حسب أهدافه، فأيدت البديل الديني المتشدد، أو على الأقل لم تناهض قيام الثورة، صحيح أن نخباً شابة ومتعلمة تعليماً حديثاً وربما غربياً قد تتولى قيادة الحركات الدينية إن في إيران أو غيرها، غير أن الشرائح المجتمعية الضاربة إنما تحكمها العصبيات ذات الطابع الجماهيري الريفي أو البدوي المغلق على نفسه، والذي غالباً ما تجاوزته فرص التعليم والنماء والعدل الاجتماعي.

فإذا أخذنا في اعتبارنا ضخامة الحشود في بلاد تعرف بثقلها السكاني كمصر والجزائر والسودان، ثم انعزال عناصر القطاع المدني الثقافي وترفعها عن هذا النوع من الجموع، وربما انسحابها وهجرتها إلى خارج أوطانها، فإن تسييس تلك الأكثرية وتأطيرها بالرفض السلبي الحاد يكون أكبر إغراء من توجيهها إلى التعاطي السياسي المثمر، أما مطالبها التي تصرخ من أجلها فهي النغمة التي يعزف عليها زعماؤها إن أرادوا لأنفسهم البقاء والولاء، لتبقى البنية المدنية العربية عاجزة عن توحيد فئاتها الحضرية وغير الحضرية وتحويلها إلى قوى متضامنة معها، تعينها على الحكم، فيتكون لدينا وفي مقابل هذا الوضع الاجتماعي المقلوب والمربك، شريحة من مثقفين يفصّلون بنظرياتهم الحلول، ويشرحون الأسباب، فلا يحظون بقرّاء لهم على الضفة الأخرى، وكأنهم يكتبون لطبقتهم ومن حولها، وكأن الديمقراطية ستهبط من السماء قبل تأسيس قاعدتها الحضارية الصلبة، وهو ما يفسر أيضاً ميل أغلب المثقفين وغيرهم من غير الموالين للمد الديني المتشدد إلى خط «الدولة»، والذين يجوز أنهم كانوا في مرحلة سابقة ضد رموزها وضدها، إنما لقناعتهم بأن وجودهم أصبح مرتهناً بتماسك الدولة وعقلنة سياستها، فقد شكل لهم الواقع حكمة اختيار الجانب الرسمي والرهان عليه، والاهتمام بتحقيق إصلاحه، ومن الداخل.

لو استقبلنا القرن الحالي مزودين بنهضة علمية وحرب على الخرافات والتقاليد المعطِّلة، وبتطور للطب وتحسين أحوال الطبقات الشعبية ودرجة فقرها وجهلها، وبتقدم صناعي يجاري انجازات القرن الماضي، وبقوانين تحمي أطفالنا ونسائنا و.... رجالنا، وتحترم إنسانيتهم وحرياتهم، وبطرق ومواصلات وضوابط مرور ونظافة عامة، لو فعلنا ذلك كله أو شيئاً منه، لما استيقظنا على من يعيش بيننا ويقبل بفئة متخلفة تقاوم مبادئ الإسلام بتطرفها، كما تقاوم المبادئ التقدمية، ولما تغافل كثير من الإسلاميين عن نهج الدين منذ فجر الدعوة حيال من أعلن إسلامه فلم يقبل القرآن إيمانه، واعتبره «أشد كفراً ونفاقاً»، إلى أن يتم تحوله المجتمعي الحياتي ـ وليس اللفظي ـ إلى البيئة الحاضرة ونظمها وآدابها وتكيفها مع قيم الدين وتعاليم الدولة، وصلاحية وحدود الاثنين، ولعله ليس من باب الصدفة ما جاء عن موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي الدموي السابق حين قال: «إذا رأيت العرب ينتظمون في طابور لركوب الباص، عندئذ سأشعر بالخطر».

يخطئ العرب إذا تصوروا أنهم دخلوا عاما جديدا بمجرد تغير الرقم في التقويم السنوي، فبعد خفوت أضواء الاحتفالات، علينا التذكر بأن تخلفنا العلمي توأم سيامي لتخلفنا العقلي البنيوي، وبأن أوضاعاً عربية ـ قبلية وطائفية واستبدادية ـ ما زالت تنتمي إلى القرون الغابرة، وتتحكم بنا حتى اللحظة، فيكفي مشهد إعدام صدام ليلخص حالنا، كلمة أخيرة: عالم اليوم يعبئ طاقاته بعلمه وفكره المنهجي والمنطقي والتزامه بالسلوك الحضاري، وليس بالفزاعات وبطولات الانتقام، ولا بالشخصية «الفهلوية» أو المتحجرة.