خطة بوش الجديدة: المصير الحزين المنتظر

TT

كانت إشارة رمزية فقط ، ولكنها إشارة ذات دلالة، أن تبدأ الخطة الأميركية الأمنية للسيطرة على مدينة بغداد، بالهجوم على شارع يحمل اسم «حيفا»، حيث حيفا مدينة فلسطينية محتلة منذ العام 1948. فقد دعا تقرير بيكر إلى معالجة القضية الفلسطينية كمدخل استراتيجي لمعالجة الوضع في العراق، ولكن خطة الرئيس جورج بوش الجديدة بشأن العراق بدأت عملها بتنظيم هجوم على رمز فلسطيني بارز في العاصمة العراقية.

ليس هذا هو التناقض الوحيد بين خطة بيكر وخطة بوش الجديدة. هناك تناقضات أخرى بارزة.

خطة بيكر تدعو إلى حل سياسي عراقي يعبر عن نفسه بوحدة وطنية، بينما تشجع خطة بوش حكومة المالكي على الاستمرار والعمل.

خطة بيكر تدعو إلى فتح حوار مع جيران العراق، وبالتحديد مع سوريا وايران، بينما تتعهد خطة بوش بمصادمات مع سوريا وايران من خلال ما يسميه «منع تدفق الدعم للمتطرفين من سوريا وايران».

خطة بيكر تدعو إلى تأكيد وحدة العراق، وتلمح حتى إلى تعديل الدستور، في إشارة إلى موضوع الفيدرالية وما ينطوي عليه من تنازع طائفي، وخطة بوش تدعو إلى تدعيم «الحكومات المحلية»، من خلال ما يسميه «مضاعفة فرق الإعمار في المحافظات، المكلفة بمساعدة العراقيين على بناء الحكومات المحلية، والمساعدة في جهود المصالحة المحلية، وتقديم المساعدة الاقتصادية المحلية».

خطة بيكر تدعو إلى عمل يتوجب انسحابا عسكريا أميركيا، بينما تدعو خطة بوش إلى البقاء، وتعلل ذلك بأن «ملايين الناس في الشرق الأوسط ... ينظرون إلى العراق لرؤية ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب من هناك أم ستقف إلى جانب الشعب العراقي».

بهذه المواقف يعلن الرئيس بوش رفضه، ورفض المحافظين الجدد المهيمنين على السلطة في البيت الأبيض، لمضمون تقرير بيكر. ويشكل هذا الرفض احتدام معركة سياسية أميركية داخلية سنعيش على وقع أنغامها خلال العامين القادمين، وإلى أن تنتهي فترة حكم الرئيس بوش. وحين يرفض الرئيس بوش خطة بيكر، فهل نستطيع أن نعتبر ما عبر عنه في خطابه الأخير خطة أميركية بديلة؟ إنها خطة فعلا، ولكنها ليست خطة بديلة، وليست خطة جديدة. إنها تأكيد وتكرار للخطة الأميركية القديمة، الخطة التي جربت ثلاث سنوات وثبت فشلها. وما يتعهد به الرئيس بوش هو أن يوفر للخطة القديمة عناصر النجاح التي لم تتوفر لها في المرات السابقة. فما هي عناصر النجاح هذه؟

العنصر الأول: هو زيادة عدد القوات الأميركية في العراق (21 ألف جندي) موزعين على خمسة ألوية.

العنصر الثاني: هو شن هجمات عسكرية ضخمة، وإطلاق إسم الخطة الأمنية على هذه الهجمات. وستتركز هذه الخطة في منطقتين: منطقة مدينة بغداد، ويتم تخصيص ثلاثة ألوية لها. ومنطقة محافظة الأنبار، ويتم تخصيص لواءي مارينز لها.

العنصر الثالث: يحدد الرئيس بوش فترة عشرة أشهر لتنفيذ الخطة الأمنية، تنتهي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر القادم. ويتم بعد ذلك تسليم المسؤولية الأمنية للحكومة العراقية في جميع المحافظات.

العنصر الرابع: إن التعامل الأميركي مع الحكومة العراقية سيتم منذ الآن على قاعدة التهديد بالنجاح أو التهديد بعدم النجاح، وهي إذا فشلت «ستفقد دعم الشعب الأميركي، وستفقد تأييد الشعب العراقي»، لأن «التزام أميركا ليس مفتوح النهاية».

ولكن لنفترض نظريا أن حكومة المالكي قد فشلت وأعلنت بعد مضي عشرة أشهر أنها غير مهيأة لتسلم الحكم في العراق، فماذا سيكون الموقف الأميركي بعد ذلك؟ خطة بوش الجديدة لا تجيب على هذا السؤال. لذلك يمكن وصفها بأنها خطة تجريبية ليس غير، ولا تنطوي على أية رؤية استراتيجية جديدة.

هذا الوصف المبسط، يبدو باردا جدا، ولا يستطيع أن يعبر أبدا عن حرارة الوضع وشدته وقسوته. فقد بدأ تنفيذ خطة بوش قبل الإعلان عنها بساعات، بدأ بالهجوم الأميركي ـ العراقي على شارع حيفا، ودارت في الشارع معارك ضارية حسب وصف وكالات الأنباء، وظهرت الطائرات الأميركية في الأجواء وقصفت أحياء الشارع السكانية، وسقط في القصف عدد كبير من القتلى والجرحى، فإذا كانت معركة للسيطرة على شارع واحد تحتاج كل هذا الجهد العسكري، فكيف سيكون الحال إذا حين نتحدث عن أحياء بغداد الداخلية المكتظة بالسكان وشبه المغلقة؟ وكيف سيكون الحال حين نتحدث عن الأحياء الواقعة في أطرافها، وهي مدينة كبيرة يبلغ طولها 70 كليومترا؟ وهناك مسألة أخرى هامة، فإذا كانت السيطرة الأمنية ستتم من خلال المعارك، ومن خلال قصف الطائرات، ومن خلال القتل، ومن خلال التدمير، فأية علاقة ستنشأ بين الاحتلال والسكان بعد ذلك؟ هل سيسود الهدوء أم سيتسع نطاق المقاومة؟ ولا بد أن نلاحظ هنا، أن شارع حيفا هو شارع حديث، ولأنه كذلك فإن سكانه خليط من ألوان الطيف العراقي، من السنة والشيعة والأكراد والموظفين والضباط، بينما تتميز الأحياء الداخلية بنوع من التصنيف، فهناك أحياء ذات غالبية سنية مع أقليات شيعية وكردية، وهناك أحياء ذات غالبية شيعية مع أقليات سنية وكردية، والتصنيف الأميركي مسنودا بتصنيف حكومة المالكي، يضع الأحياء ذات الغالبية السنية في نطاق أحياء الإرهاب والتمرد، بينما تتمركز في الأحياء ذات الغالبية الشيعية مليشيات علنية كثيفة، وتقع هذه الأحياء الآن في دائرة الاستهداف العسكري الأميركي. وإذا كانت القوات الأميركية قد ركزت في السنوات السابقة على شن هجمات ضد الأحياء ذات الغالبية السنية، فهل ستوسع نطاق عملها الآن وتشن هجمات ضد الأحياء ذات الغالبية الشيعية؟ وهل تستطيع القوات الأميركية أن تتحمل نتائج هذا الاستفزاز الشعبي الشامل؟

يتحدث الرئيس بوش في خطته الجديدة عن هذا الوضع المعقد فيقول «سيكون بمقدور القوات الأميركية والعراقية الدخول إلى الأحياء التي كان التدخل السياسي والطائفي قد حال دون الدخول إليها في الماضي... وقد وعد رئيس الوزراء نوري المالكي بأن التدخل السياسي أو الطائفي لن يسكت عليه».

لقد جاء الأميركيون إلى العراق وهم يحملون نظرية خادعة حول هوية العراق وتكوينه السياسي، روجها لديهم بعض المثقفين العراقيين الذي تماهوا معهم. تقول هذه النظرية إن العراق يجب أن يكون عراقيا (أي ليس عربيا)، وأن «العروبة» في العراق شأن سني، والشيعة بعيدون عنها، ولذلك فإن تسليم السلطة للشيعة هو المدخل لبناء العراق الجديد. ولكي لا يقع العراق في منطقة النفوذ الديني الايراني، فلا بد من تسليم السلطة للشيعة «العلمانيين». وقد تم وضع هذه النظرية موضع التطبيق في عهد حكومة إياد علاوي التي ارتكبت جريمة تدمير مدينة الفلوجة، وذهبت إلى حال سبيلها. ثم جاءت إلى السلطة حكومتا الجعفري والمالكي ليكتشف الأميركيون أنهم قاموا بتسليم السلطة لحلفاء ايران في العراق. وها هم يعملون الآن من أجل وهم جديد، حيث سيتولى أتباع ايران في السلطة فتح الطريق أمامهم لتدمير الأحياء ذات الغالبية الشيعية، من أجل القضاء على المليشيات الطائفية !! وما هي إلا أشهرا ويكتشف بعدها بوش أنه ذهب إلى بوابة الجحيم سائرا على قدميه.