مواطنو الغربتين

TT

الرسائل الأولى التي كتبتها من سفري الأول، تحدثت فيها عن «المنفى». الوجوه الغريبة في باريس والشوارع الجميلة والنساء الذاهبات في عجلة من أمرهن لا يلتفتن الى الشاب المفتون سلفا بسحر المدينة، كل ذلك كان منفى شخصيا. موضوع لشكوى أو قصيدة ولكن الحقيقة لم يكن أهل باريس غرباء وسوف تمضي سنوات قبل ان أدرك ان الغريب هو انا. واتساءل اليوم، وانا أبحث من جديد، وفي مثل سني، عن مكان آخر غير بيروت، هل اللبناني مواطن، أم انه يولد غريبا بعكس جميع مواطني الارض. انسان له كل مواطن الدنيا الا وطنه. له كل موانئ البحار وميناء بلده مرتبك وخائف، ولا أحد يستطيع ان يخبره (للميناء) الحقيقة: هل هو مرفأ للرحيل أم للعودة؟

كان كتابي الأول، عام 1984، بعنوان «مسافر بلا ميناء». وبعده أصدرت «مسافر في أوطان الآخرين». ثم بدأت رحلة العودة الى بيروت. وتراجعت حدة الغربة قليلا، فأصدرت «ناس ومدن»، وهو عنوان وضعي وموضوعي معا. يحكي عن معرفة العالم لكنه لا يرفق ذلك بشعور الاغتراب. فبعد مضي كل هذه السنوات، اي حوالي ربع قرن آنذاك، يختلط مفهوم الغربة والوطن، خصوصا على اللبناني الذي يولد في حقيبة ويتوسد حقيبة، وعندما تقع الحروب على رأسه لا يعرف في أي اتجاه يقع ملجؤه.

وفي الشباب يكون السفر حلما. ثم يتحول الى مغامرة ثم الى قصيدة. ثم الى عادة، ولكن مع الحلم والمغامرة والشعر، يلازم المرء حنين غريب الى العودة. الى الناس والاشياء والذكريات. الى حالة جمالية أخاذة وبسيطة اسمها لبنان: ثلوجه أكثر بياضا وأقل قسوة من ثلوج الآخرين، وخضرته أكثر حنانا. ونسائم من خضرة البلاد الأخرى، وبحره أزرق أزرق أزرق مثل سماء الفجر.

مع الحنين الدائم هناك خوف دائم: الى متى سوف يستمر الهدوء هذه المرة؟ كم ستدوم مقدرة لبنان على ان يكون وطنا؟ هل هي العودة الأخيرة أم مجرد مقدمة لهجرة أخرى؟ والى أين الهجرة المقبلة؟ وكيف تكون الهجرة بعد أن يتعدى الانسان عمر الحلم وسن المغامرة والطاقة على احتمال الحنين.

المشكلة ان جميع الاوطان غربة مؤقتة مهما طالت. لا يمكن ان اصدق انه سيأتي يوم لن استطيع فيه العودة الى بيروت. لو ان المنفى المتنقل هو الوطن الأخير. وبرغم رحابة البلدان التي اقيم فيها، فلا هي تصدق انها وطني ولا انا اريد ان اثقل عليها بذلك. والغريب ان مواطن الارض تقدم لي ما لا يقدمه وطني: القانون والعدالة. وليس في الاوطان الجديدة سياسيون سُقَّط كمثل من ابتلينا بهم ولا فوضى كمثل فوضانا ولا فرقة مريرة وسامّة كمثل الفرقة التي تمزقنا هذه الايام. ولكن السبب غامض، نظل نفضل غربة الوطن على قسوتها وجحودها وعقوقها. لماذا نحب البلد الذي عرفنا فيه الشقاء الأول في اليفاع والعذاب الدائم في العمر، لست أدري. حتى غربتنا الدائمة والفظيعة فيه، نحبها أكثر من غربتنا في الديار الأخرى. هناك هذه الغربة، لها طعم الامتلاك ومتعة الانتماء. ولها اسماء وناس وطفولة واحلام ومغامرة ومشاعر. وللبناني قدران. قدر ان يحب البلد الجميل وقدر ان يسافر في الارض بعيدا عنه، بحثا عن مكان يقيم فيه لكي يحنَّ منه الى لبنان.