الكعكة والعركة

TT

يحكى ان رجلا حضريا من اهل المدن ذهب ليزور اعرابيا من اهل البادية. استضافه هذا وأولم له وليمة من اكلة السخين. سأله الضيف يا ابا عبد الله ماذا تسمون هذه الاكلة. فقال له انها هي السخين. فرد عليه الضيف مستفسرا، وماذا تسمونها عندما تبرد؟ قاله له، وفقك الله، وهل نتركها حتى تبرد؟!

أعلم يا حضرة القارئ الكريم، وفقك الله، ان جواب هذا الاعرابي بكلماته الموجزة يجسم ويعبر في الواقع عن هذه الجينات المستأصلة في نفوسنا والمتمثلة بالحكمة القديمة «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة». فحيثما تلتفت تجد ان جل ساستنا وأولي الأمر منا يستعجلون الطبخة قبل نضوجها ويؤثرون فضل المدى القريب على افضال المدى البعيد. كل هذه المصائب والمشاكل، كل هذه المنازعات والقتولات والخطوفات الجامحة في العراق وفلسطين والصومال وغيرها تعود في الواقع للعركة على الكعكة قبل نضوجها. لا احد منهم يتركها حتى تبرد فيسهل تقسيمها وتوزيعها.

عدم الاستقرار والتوالي السريع في السلطة وعدم وجود آلية تضمن الانتقال الشرعي السلس خلق في المسؤولين الشعور بعدم ائتمان الزمن. تراه اليوم وزيرا وتسمع عنه بعد ايام في السجن، او هاربا في ديار الغربة. والعاقل اللبيب ـ كما يرون ـ هو من يرتب لنفسه رصيدا محترما في سويسرا وغيرها من البلدان الاجنبية الآمنة. يا ليتهم تعاملوا مع بلادهم كما تعاملوا مع شركاتهم. فكل الشركات المهيبة والمحترمة تدرك وتعمل على اساس التخطيط البعيد المدى. لا تنتظر من استثماراتها ان تأتي بأكلها بعد ايام قليلة.

اذا كان الأمر بهذا الشكل بالنسبة للشركات الكبرى فما بالك بالنسبة لدولة؟ عمر الأفراد محدود وقصير ولكن عمر الشعوب والأمم والدول يمتد لقرون. الحكمة القديمة التي تقول «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون» تحولت عند هؤلاء القوم الى «نهبوا فأجاعونا وننهب فيجوعون». يعتبر هذا التفاوت بين عمر المواطن وعمر الوطن سببا من اهم اسباب المحن والتخبط الجاري في معظم البلدان.

هذا التناقض الزمني يلحقه تناقض مكاني. يرجع هذا التناقض المكاني الى ضحالة الشعور بالوطن الأكبر. الشعور بالانتماء الوطني وما يترتب عليه من مسؤولية نحو كل جزء من اجزاء الوطن يتطلب عنصر الزمن. العراق كبلد مثلا كيان حديث العهد بالنسبة للعشرين او الثلاثين مليون فرد ساكن فيه. ويظهر ان حب الوطن كحب الزوجة، شيء يتصلب ويقوى بمرور الأيام والسنين. لا تستطيع ان تخلقه بمجرد خط الزواج او اعلان الاستقلال. وهذه طبعا هي محنة الجيل الحاضر الذي يقتضي عليه ان يجتاز خطوط النار، خطا فخطا، ويتذرع بالصبر والأمل حتى يبرد السخين وتنضج الكعكة سالمة كاملة.