لا.. للديمقراطية !

TT

لا للديمقراطية! هذه ليست لائي أنا، هذه لاء باحث أمريكي، وكاتب مرموق في مجال الكتابات الإستراتيجية، إنها لاء «فريد زكريا»، رئيس تحرير« نيوزويك» الدولية، والكاتب في مجلة «فورين افيرز».

لاؤه هذه يتوجه بها للعالم الثالث (عالمنا نحن أهل الحزن والقلق الدائم!) وحجته، كما قال في كتابه «مستقبل الحرية.. الديمقراطية غير الليبرالية داخل الوطن وخارجه»، والذي كان أصله مقالا نشر في «فورين افيرز» 1997، حجته أن الليبرالية الدستورية ثم الرأسمالية، هما المقدمتان الضروريتان لوجود «ليبرالية ديمقراطية» في العالم العربي والإسلامي.

هذا الرجل من أصول هندية إسلامية، الأمر الذي ـ ربما ـ يخفف من تهمة العنصرية الانجلوسكسونية البيضاء، أو لا يقلل منها، ليس مهما !

المهم هو في قراءة حجج الرجل ودلائله. وهي حجج ودلائل تقوم على فكرة مباشرة هي أن التاريخ الحديث يخبرنا أن الديمقراطية حينما مورست في كثير من دول العالم الثالث ـ بفضل ضغط غربي طبعا ـ أفضت إلى نتائج سيئة تجلت في وصول تيارات أصولية ونازية، وان الوضع الاقتصادي والحريات العامة والأمن كانت أفضل في ظل الأنظمة السابقة التي تمت الثورة عليها، أو إضعافها بحجة الحرية والديمقراطية.

ولكن قبل ذلك دعوني أقول لكم لماذا استعيد هذا الجدل ؟!

الحق أن شعار الديمقراطية شعار جميل، وجنة سياسية يسعى إليها كل إنسان نقي العقل، فهي منتهى التطور السياسي الاجتماعي، و«سدرة منتهاه»، ولكن هذا الشعار، الذي طالما رفع في وجه الحكومات الدينية والاستبدادية والنازية والشيوعية، أو الملكية والعسكرية، كان في كثير من الأحوال يفضي إلى نتائج أسوأ مما كان... ونرى خيارات الناخب تتجه دوما إلى من يقوده إلى الخلف أكثر من السابق، وكأنه ينتقم من نفسه !

من أحدث الأمثلة وأقربها: مصر، فمصر التي يقودها نظام سياسي شبه عسكري منذ ثورة يوليو، هو نظام غير مرحب فيه لدى القوى «التقدمية» والشيوعية، إضافة طبعا إلى القوة الرئيسية المعارضة، اعني الإسلاميين وفي مقدمهم الإخوان المسلمون.

حجج الرافضين للنظام المصري، خصوصا في فترة مبارك ، ومع اندلاع الهجمة الأمريكية الديمقراطية على المنطقة، متنوعة ومتعددة، لكنها تستظل بمظلات شعاراتية «مؤقتة» مظلات تجمع تحتها الصقر الاخواني مهدي عاكف، والعلماني المسيحي جورج إسحاق منسق حركة كفاية «التقدمية العلمانية» تحت عنوان مناهضة النظام سياسيا ومضايقته باستمرار، بحجة الديمقراطية، أو بحجة أن النظام خذل الفلسطينيين أو «سمح» بالغزو الأمريكي للعراق... وغير ذلك. لكن فيما سوى هذه الشعارات التوحيدية «المؤقتة» لا نعلم على وجه الدقة مدى إمكانية بقاء هذا التماسك بين أعداء النظام، في حالة تعرضه لاختبار حقيقي، يمتحن القناعات الفكرية والآيديولوجية لدى كل طرف، وهو أمر شهدنا جانبا منه في «محنة» الوزير فاروق حسني، حينما تعرض لهجمة شعواء من قبل نواب الإخوان المسلمين، وحركت ماكينة الإخوان المشاعر الشعبية ضد الوزير الذي اتهم بإهانة الحجاب، الأمر الذي جعل نواب الحزب الوطني الحاكم يدخلون في حفلة مزايدة على نواب الاخوان، ويمشون في المشوار كثيرا .. نتذكر في هذه المحنة كيف أن رموز كفاية وحركة كفاية وصحافة كفاية، اعني كثيرا من صحف المعارضة، ارتبكت، فهي من جهة تعتبر نفسها حركة مجتمع مدني تدافع عن الحريات السياسية وتهاجم ـ من منظور وطني علماني ـ، مساوئ النظام، فكيف تنخرط في معركة ليست لها ؟!

ماذا فعل «الكفائيون» حينها ؟!

دخلوا في مناورة مخفقة لتحوير المعركة ضد الوزير حسني، من معركة الحجاب إلى معركة الفساد «الضارب» في وزارة الثقافة، والمحسوبيات، والنهب من المال العام.. من اجل إظهار الحركة في خندق المعارضة ضد الوزير، واستطرادا ضد الحكومة، من دون أن تخدش نقاءها العلماني، خصوصا أنها تقدم نفسها للقوى الديمقراطية في الغرب باعتبارها صوت الحرية والديمقراطية... فكيف تنضم لرؤية الإخوان الرجعية ضد المرأة ؟! خصوصا أن مسألة قمع المرأة في العالم العربي من أهم المسائل التي تنصب عليها جهود المنظمات الدولية الإنسانية والحقوقية في سياق نقد الأنظمة العربية !

انتهت محنة الوزير حسني بعدما صرح بأنه كان غافلا عن أهمية إنشاء إدارة دينية في الوزارة، وانه «خلاص» سينشئ هذه الإدارة، وان هذا من دروس الأزمة، لنطالع بعد ذلك تصريحات لمرشد الجماعة مهدي عاكف خلاصتها: يكفي ما حصل، والضجة مبالغ فيها، وتخرج كفاية كسيحة!

ماذا نريد أن نقول؟

نريد القول انه ورغم أن حركة كفاية تعتبر من ابرز الأمثلة في العالم العربي على صعود القوى الديمقراطية، إلا أنها ليست إلا كيانا شاحبا هزيلا، رغم كل النفخ الإعلامي، بالقياس إلى حركة الإخوان الأصولية، هذه الحركة التي حينما نفس لها النظام تحت وطأة المطارق الأمريكية، دخلت دخولا مدويا إلى البرلمان، وها هي الآن تعد العدة لتقديم برنامجها السياسي رغم انف القانون الذي لا يسمح بالانتماء لحزب الإخوان المسلمين منذ أكثر من نصف قرن، ورغم أنف التعديل الدستوري الاخير الذي يقول بعدم جواز قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، طبعا النظام رد بالأسلوب الأمني المعتاد، وسجن بعض الفاعلين (هل سمعتم باستنكار من قبل كوندي رايس هذه المرة !) لكن الإخوان مصرون على المضي قدما، والرئيس مبارك يقول إن وصول الأحزاب الأصولية إلى الحكم يعني دخول البلاد في خراب، وهرب الاستثمار وتعاسة الحال.. ربما يعني هذا الكلام الذي نقوله هنا اننا ضد الديمقراطية ومع الأنظمة المستبدة ؟!

وطبعا كلام كهذا غير شعبي أبدا. الحق، كما أرى، مع نصف هذا الكلام، بمعنى أنه: ليس صحيحا أن شفاء علتنا السياسية والعربية هو بتطبيق الديمقراطية الشفافة وتمكين الجمهور بكل راحة وصدق من اختيار من يشاء.

هذا تبسيط، وفوق ذلك يؤدي إلى نتائج وخيمة، وآخر دليل ما جرى في العراق: انتخابات نزيهة بشهادة كثيرين، لكنها أوصلت أناسا ليسوا قادرين على «حكم العراق» ونفع العراقيين، لأنهم جاءوا بسبب شعارات عاطفية دغدغت مشاعر «الأكثرية»، وفقط ! أما النصف الذي لست معه من هذا الكلام، فهو أنني أرى أن الأنظمة العربية لم تفعل ما تحدث عنه فريد زكريا، من وجوب السعي نحو تجهيز المجتمع لممارسة الديمقراطية، من خلال إرساء ضوابط دستورية واضحة، وثقافة قانونية حقيقية، تشمل المجتمع كله أفقيا وعموديا، ضوابط وثقافة تمنع استئثار حزب ما بالسلطة إذا ما وصل إليها عن طريق الانتخاب الديمقراطي، وبعد هذه الليبرالية القانونية ننتقل إلى المراحل الأخرى.

أضيف إلى ذلك، دعم ثقافة التعددية وتعويد المجتمع على قبول الخلاف، تعويده بشكل منهجي وعنيد، وتلك مهمة لا يقدر عليها إلا من ملك صدقا وعزما من الساسة.

هذه الخطوات «التجهيزية» لم تفعلها الأنظمة العربية، ولذلك تجمد الوضع، وحدثت فيه رخاوة وضعفت القدرة على مقاومة وهج الشعار المعارض. ونحن نعلم أنه خير من يدافع عنك هو أفعالك على الأرض، وليس وعودك للناس بأنك ستفعل !

هذا السعي الجاد، والرصين، نحو جنة الديمقراطية هو المخرج من مصائر لا يعلم إلا الله شكلها. نريد هذه الخطوات التجهيزية حتى تصبح الديمقراطية ثمرة طبيعية وليست قفزة في المجهول. المهم هو عدم الركض مجددا خلف أهل الشعارات والحماسيات التي لم تقطع أرضا ولم تبق ظهرا، دينية كانت هذه الشعارات أم قومية ويسارية. أيضا أن تنفض الأنظمة عن نفسها غبار الجمود، وذنوب الفساد، هذا الفساد الذي قال ذات مرة عنه الشيخ صباح الأحمد حاكم الكويت إنه فساد «لا تحمله الجمال»!. ولكن، هل يعني هذا «تعليق» الديمقراطية، وعدم العمل بها إلى أن «يتربى» الناس على ثقافة الديمقراطية، وتصلح الأنظمة نفسها ؟! أليس هذا كلاما مثاليا وغير عملي ؟!

لا أدري حقا ! ولكن يبدو لي هنا أنه يمكن ممارسة ديمقراطية سياسية من نوع خاص في عالمنا في هذا المرحلة من تاريخنا، كالتي تمارس في تركيا أو في الأردن، ديمقراطية تسمح بتولي الإسلامي رجب طيب اردوغان رئاسة الوزراء، أو الإسلامي الاخواني عبد اللطيف عربيات رئاسة البرلمان الأردني، ولكن في الحالتين لم يتسبب وصول الإسلاميين إلى مواقع متقدمة في الحكمة في هز بنية الدولة وتغيير هويتها وقلبها بالكامل، وضرب الثقافة الاجتماعية، والسبب وجود مصدات مانعة، ليست هي المصدات القانونية والدستورية فقط، فهذه نصوص يمكن تغييرها، ولكن وجود قوى تحمي الوضع العام، وهي الجيش في تركيا، والقصر الملكي في الأردن.

ربما يمكن اعتماد هذا السبيل، من اجل عدم الجمود في الممارسة الديمقراطية، وفتح المجال المحسوب.

يبقى الأهم في نهاية الأمر هو الارتقاء إلى الديمقراطية وليس إحلالها ـ بقضها وقضيضها ـ على عربة متهالكة، ربما تنهار بالجميع، وحينها..!

[email protected]