إدغار موران والمسألة اليهودية

TT

قرأت باهتمام بالغ كتاب ادغار موران الأخير عن «العالم الحديث والمسألة اليهودية». وقد أثار انتباهي لعدة أسباب. أولها ان موران هو أحد الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعدودين في فرنسا. وقد اشتهر بنظريته عن الفكر المعقد لا التبسيطي، أي الفكر الذي ينظر الى الواقع في كليته الشمولية بل وحتى في تناقضاته ونسيجه المتشابك والمعقد. وثانيها هو انه من أصل يهودي شرقي ومع ذلك فيعترف بالحقيقة الموضوعية في فلسطين ولا يكابر ولا يزور ولا يعكس الحقائق كما يفعل الكثير من المفكرين الغربيين سواء أكانوا يهوداً أم غير يهود. وثالثها هو انهم جروه الى المحاكم وعذبوه بسبب مقالة نشرها في جريدة «اللوموند» مع مثقفين آخرين تحت عنوان: اسرائيل ـ فلسطين: السرطان. وقد أدان فيها القمع الرهيب الذي يمارسه جيش الاحتلال الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني وتحول اليهودي من ضحية على مدار التاريخ الى جلاد في فلسطين بعد تأسيس دولة اسرائيل. بالطبع فإن ادغار موران فعل ذلك حرصاً على اسرائيل والاسرائيليين ومستقبلهم على المدى البعيد في المنطقة. بل ويمكن القول بأنه أحرص على مصلحة اليهود من غلاة الصهاينة الذين يصفقون للسياسة الاسرائيلية مهما تهورت وارتكبت من حماقات وجرائم بحق شعب محتل. وعلى الرغم من ذلك فقد اتهموه بأنه يهودي خائن، بل ويحرض على الكره العنصري ضد اليهود: أي ما يدعى بمعاداة السامية! وهكذا انكشفت الساحة الثقافية الفرنسية بين مؤيد بشكل لا مشروط لدولة اسرائيل وسياساتها، وبين المثقفين النقديين الذين يخشون ان تؤدي هذه السياسة المتطرفة الى كارثة جديدة تصيب ليس فقط الآخرين وانما الشعب اليهودي نفسه. فالشيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده كما يقول المثل. وينبه ادغار موران الى حقيقة تاريخية غريبة الشكل: وهي ان الضحية قد تتحول الى جلاد بل وسفاح لا يشبع من الدم اذا ما انقلبت الظروف واصبحت في موضع قوة بعد ان كانت في موقع ضعف. وهذا قانون عام ينطبق على الطبيعة البشرية كلها على ما يبدو. فلم يضطهد شعب آخر في التاريخ مثلما اضطهد اليهود بعد ان انهارت دولتهم في فلسطين قبل ألفي سنة وتبعثروا في شتى انحاء الأرض. ثم تحولوا الى أقليات محتقرة في كلتا الجهتين الأوروبية المسيحية، والعربية الاسلامية. ولكن ادغار موران يعترف بان العرب والمسلمين كانوا أرأف باليهود من أوروبا المسيحية. صحيح انهم كانوا ينظرون اليهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة ولكنهم كانوا على الأقل يحترمون بعض حقوقهم الانسانية على أساس انهم أهل ذمة أو أهل كتاب. أما اوروبا المسيحية فقد أدانتهم ادانة قاطعة بتهمة قتل المسيح ولم ترفع عنهم هذه التهمة الا مؤخراً. وبالتالي فقد ضيقت عليهم الخناق وأعملت فيهم المجازر من حين لآخر، ولم ينالوا حقوقهم كبشر الا بعد انتصار التنوير والثورة الفرنسية. وقد اندمجوا عندئذ في نسيج الشعوب الأوروبية لفترة قرن أو قرن ونصف قبل ان تطغى الموجة الفاشية ـ النازية على اوروبا وتحصل المحرقة الشهيرة التي قتلت منهم الملايين. وبالتالي فاليهود اضطهدوا مرتين في اوروبا: مرة على يد الأصولية المسيحية التي ظلت تحتقرهم وتلاحقهم لمدة ألفي سنة. ومرة اخرى على يد أوروبا العلمانية بعد ان فقدت صوابها في لحظة طيش وسلمت قيادها للفاشيين من أمثال موسوليني وهتلر وسواهما وتخلت عن تنويرها وعقلانيتها ونزعتها الانسانية الحضارية.

ولهذا السبب، فإن اليهود يريدون الآن ان ينتقموا من كل هذا الاذلال التاريخي الذي لحق بهم عن طريق سحق الشعب الفلسطيني بالحديد والنار. نقول ذلك على الرغم من انه ليس المسؤول عن مآسيهم وانما شعوب اخرى مختلفة تماما. انه لشرف لادغار موران وبقية المثقفين اليهود التقدميين الاحرار انهم لم يتبعوا طائفتهم بشكل اعمى. ولم يدافعوا عنها الا عندما كانت مظلومة ومحتقرة. اما عندما تحولت الى ظالمة للآخرين فإنهم تصدوا لها. وهنا يكمن الفرق بين المثقف الحقيقي الذي يقول الحقيقة حتى ولو كانت ضد نفسه أو أمته، والمثقف المرتبط عضويا بطائفته والذي يرفض اي نقد لها او لتجاوزاتها على الآخرين مهما كانت فاحشة او فادحة. وكلامه هذا لا ينطبق فقط على المثقفين اليهود وانما ايضا على المثقفين العرب او المسلمين او كل انواع المثقفين في جميع الأمم. ففي الجهة العربية مثلا هناك مثقفون كثيرون يرفضون ادانة ظاهرة التعصب الطائفي التي تكتسح العالم العربي او حتى ظاهرة التفجيرات الارهابية ضد نيويورك او مدريد او لندن، الخ. والتي اودت بحياة الآلاف من المدنيين العزل الآمنين.. ويحاولون بأي شكل ايجاد التخريجات او التبريرات لها.. وهذا يعني ان الجهاد الاكبر، اي نقد الذات وتصحيح عوجها وانحرافاتها، هو اصعب من الجهاد الأصغر بكثير.

ان الدرس الذي قدمه لنا ادغار موران ثمين جدا. فهو لا يتردد في فضح الاساطير الصهيونية التي قالت بأن فلسطين هي ارض بلا شعب لشعب بلا ارض. ولا يتردد في ادانة خروج اسرائيل على القانون الدولي عن طريق تذكير العالم بالمحرقة باستمرار لكي يسكت عليها وعلى اعمالها التعسفية والارهابية. ولا يتردد في القول بأن اسرائيل بدلا من ان تبحث عن التعايش مع العرب تستمر في قضم اراضي الفلسطينيين، بل ولا يتردد حتى في فضح العدوانات المزورة التي يزعم بعض اليهود بأنهم تعرضوا لها في فرنسا من اجل اثارة الرأي العام على العرب والمسلمين وصرف الانظار ايضا عن اعمال جيش الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين.. بل ويضرب امثلة عملية دقيقة على ذلك، ولكن لا استطيع ان اتوقف عندها هنا، ثم يصل ادغار موران الى الحقيقة الهامة التالية: وهي ان اخطر ما يهدد فرنسا حاليا ليس معاداة السامية وانما العنصرية المتنامية ضد العرب والسود والاسلام والمسلمين عموما. هنا تكمن مشكلة فرنسا الاساسية التي سوف تشغلها طيلة السنوات القادمة وليس معاداة السامية لأن اليهود من أسعد خلق الله حاليا في بلاد فولتير وموليير. وبالتالي فلا ينبغي قلب الحقائق عاليها سافلها او تحويل الكذبة الى حقيقة عن طريق الاستخدام الانتهازي لوسائل الاعلام الجبارة.

واخيرا يرى ادغار موران ان اسرائيل سائرة نحو الكارثة او حافة الهاوية اذا لم تغير منطقها السياسي واساليبها في التعامل مع الفلسطينيين. وربما كانت آخر فرصة امامها هي ان تقبل بالمبادرة التاريخية التي طرحتها عليها المملكة العربية السعودية في قمة بيروت: الانسحاب الى حدود 1967، مقابل الاعتراف الكامل وطي صفحة الصراع نهائيا وفتح صفحة جديدة للتعايش السلمي في المنطقة. فهل يستمع قادة اسرائيل الى صوت العقل في آخر لحظة؟ هل يستمعون الى نصيحة مثقف يهودي مثلهم حريص عليهم اكثر من اولئك الذين يصفقون لهم مهما فعلوا ويؤيدونهم بشكل لا مشروط؟ هل يفهمون اخيرا ان صديقك من صدقك (القول) لا من صدَّقك؟..