في مواجهة الأصولية الإسلامية: انكسار الأحادية الأميركية والمتغيرات

TT

كان صديقي أحمد الغز ـ وعلى أثر موافقة روسيا الاتحادية بمجلس الأمن على مسوَّدة نظام المحكمة الدولية في مقتل الرئيس رفيق الحريري ـ يتحدث عن متغيرات السياسات الأميركية في العامين 2005 و2006، وأبرزُها عودة روسيا الاتحادية شريكاً للولايات المتحدة، كما كانت أيام الحرب الباردة. وباستعراض الوقائع على مدى العامين الأخيرين، تبيَّنَ لنا نحن الاثنين أنّ التوافُق الأميركي/ الروسي الجديد ما بدأ بمسوَّدة المحكمة؛ بل هو يمتد ليضمَّ فيما جرى الاتفاقُ عليه القرار 1559 (والذي صاغه الأميركيون والفرنسيون ـ والتوافُقُ بينهما جديدٌ أيضاً!)، والقرارات الأخرى المتعلقة بالأوضاع في لبنان وصولاً إلى القرار الشهير رقم 1701 على أثر حرب تموز الماضي، والتوافق على دخول روسيا إلى منظمة التجارة العالمية.

إن فهم الموقف الراهن، بما في ذلك عودة الشراكة بين الولايات المتحدة وروسيا ما بعد السوفيات، يتطلب عودةً إلى الوراء، لمعرفة كيف تمَّ التوصُّلُ إلى إسقاط تلك الشراكة من قبل، ولماذا وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرةً لاستعادتها.

وبالعودة إلى النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، نجد أنّ هناك اصطفافاً عالمياً للديانات الكبرى الثلاث في مواجهة الاتحاد السوفياتي والشيوعية: الكاثوليكية، التي قاد البابا يوحنا بولس الثاني ثورتَها العمالية الأولى بدانزيغ (بولندا) ونقابة التضامُن وليخ فاوينسا، ثم اندفع مهاجماً الإلحاد ورافعاً راية الحرية. ـ والبروتستانتية الجديدة، التي أسهمت للمرة الأولى في انتخاب رئيس أميركي هو الرئيس رونالد ريغان، والذي سارع إلى الحملة على الإلحاد، والشيطان الأكبر، وانفق المليارات الكثيرة على مشروعٍ وهميٍ هو حربُ النجوم. ـ والإسلام الذي سدَّدَ حربته المتمثلة في الأصولية الإسلامية الطالعة، ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، بعد أن كان القادةُ العربُ قد أخرجوا الاتحاد السوفياتي نفسَه من الشرق الأوسط بإغراءاتٍ أميركية: خرجت مصر بعد حرب أكتوبر(1973)، وصارت حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في المنطقة العربية. وتزحزحت سورية إلى موقعٍ وسطيٍ مكّنها من دخول لبنان بموافقةٍ أميركيةٍ وربما إسرائيلية. وفي لبنان قامت سورية بإكمال ما بدأته إسرائيل في اجتياحها للبلاد حتى العاصمة عام 1982؛ إذ ضربت أنصار الفلسطينيين في طرابلس، وبقايا فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية في حرب المخيمات في بيروت. وسارع عراق صدَّام حسين ( وصديق السوفيات سابقاً) إلى شنّ حرب على إيران الثورية الجديدة. وبذلك ما عاد هناك فرقٌ بين الأنظمة القومية والإسلاميين (ورغم العداء الثقافي والسياسي للولايات المتحدة من الطرفين) في الحملة على السوفيات، ورعاية الجانب الأميركي.

وأعلنت الولايات المتحدة عن انتهاء الحرب الباردة بإشارات مزدوجة: ضربت عراق صدام حسين لدخوله الكويت في حربٍ شبه عالمية؛ لكنها وهي تعلنُ على لسان الرئيس جورج بوش الأب عن قيام «النظام العالمي الجديد» نظام الأَوحدية القطبية، كافأت العرب بالاتجاه إلى مدريد لإقامة السلام الشامل في منطقة الشرق الأوسط. بيد أنّ المسار الواعد الذي بدأ عام 1991/ 1992 ما لبث أن انتهى عملياً بمقتل إسحق رابين عام 1995. لكنْ هناك دلائل تشير إلى فشل العملية «الشاملة» قبل ذلك. فالمسار الشاملُ ذو شقين: أمني/ عسكري، وسياسي/ اقتصادي. أمّا السياسي/ الاقتصادي فما انعقد غير مرةٍ واحدةٍ عام 1994، وأمّّا الأمني / العسكري فقد فقد شموليتَه باتفاق أوسلو المنفرد عام 1993، وباتفاق وادي عربة المنفرد أيضاً عام 1994. ولذلك فإنّ مقتل إسحاق رابين عام 1995 على يد المتطرفين اليهود (أقران وأصدقاء المحافظين الجدد الذي كانوا متنفذين أيام ريغان وبوش الأب، وأخذوا السياسة الخارجية الأميركية كلَّها مع بوش الابن) آذَنَ بتبلور خيارٍ أميركيٍ يتنكر للحليفين الآخرين في الصراع مع الاتحاد السوفياتي: الأوروبيين (الكاثوليك على الخصوص)، والعرب والمسلمين الذين ما كسبوا غير كسْبٍ صغيرٍ مشكوكٍ فيه هو أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، المنقوصة السيادة، والواقعة تحت المطرقة الإسرائيلية. وقد اتضح ذلك للأوروبيين من مسلك الولايات المتحدة في تفكك يوغوسلافيا وحروب البلقان، كما اتّضح ذلك للعرب من سلوك الأميركيين في النزاع العربي/ الإسرائيلي. واتضح ذلك أخيراً للعالم أجمع من إصرار الولايات المتحدة على إضعاف الأمم المتحدة ووكالاتها الفرعية. فحتّى محاولات التفاوُض الضعيفة التي أشرف عليها الأميركيون بين الأطراف العربية وإسرائيل كانت تجري خارج إطار الأمم المتحدة وبشكلٍ ثنائي أو ثلاثي أي بين الأميركيين وإسرائيل وسورية أو الفلسطينيين! وقد انهمك المثقفون والسياسيون العرب طوالَ التسعينات في مجادلة أُطروحات اليمين الأميركي بشأن «صراع الحضارات»، وبشأن الإرهاب، وكلا «الصراعين» في نظر منظِّري اليمين جريا ويجريان بين «الغرب» و«الإسلام»، بعد أن صارت حتى الصراعات الأمنية والعسكرية ذات جذورٍ ثقافيةٍ غلاّبة! وما انفرد العرب والمسلمون بإدراك خطورة ما يجري؛ بل تنبَّه لذلك أيضاً البابا يوحنا بولس الثاني، حليف الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي طوالَ الثمانينات. ولذلك فقد ظلَّ مصراً على التنديد بمحاصرة العراق، والتنديد بالتخلّي عن السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، والتنديد بتجاهل قضايا الفقر والتسلُّح المتزايد والفوضى العالمية المتفاقمة. كما اتّجه البابا لمحاورة المسلمين، ولتلطيف الأجواء مع الأرثوذكسية التي ما أرادها أن تتحول ديناً قومياً يؤجّج الصراعات بعد ما أصاب روسيا وأصاب صربيا وبعض أجزاء العالم الأرثوذكسي في البلقان والقوقاز.

وعندما فاز بوش الابن في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2000، بدا أنّ خيار الأَوحدية القطبية، ليس خيار قياداتٍ يمينيةٍ في الولايات المتحدة وأوروبا؛ بل هو خيارٌ شعبيٌّ أميركيٌّ أيضاً. فقد صوَّت لبوش الابن زُهاء الـ40 مليون من الإنجيليين الجدد، واعتبر المحافظون الجدد الصاعدون في إدارة الرئيس الجديد للسياسة الخارجية، أنّ المشكلات الأمنية والسياسية في العالَم إنما هي إخطارٌ على المصالح الوطنية الأميركية، وعلى الولايات المتحدة أن تواجهها بمفردها وعسكرياً دونما حاجةٍ إلى التشاوُر أو التعاوُن مع حلفائها في الأطلسي، وطبعاً دونما حاجةٍ لمجاملة أو مشاركة روسيا الاتحادية، كما كان يحصُلُ في الحرب الباردة. ولضمان تنفيذ ذلك الإدراك للمصالح الوطنية الأميركية بالكامل، فينبغي تجاوُزُ المؤسسات الدولية والإقليمية والتي يحضُرُ فيها الحلفاء والشركاء الأوروبيون والروس والصينيون. ويذهب بوب وودوارد في كتابه الأول عن أميركا وبوش عام 2003 (بوش محارباً) إلى أنّ الحربَ الأولى التي أراد صقور الإدارة خَوضَها قبل نهاية العام 2001 كان ينبغي أن تجري ضدَّ عراق صدّام حسين ولعدة أسباب: اعتبار الهيمنة الكاملة على الشرق الأوسط جزءًا أساسياً من المصلحة القومية الأميركية، وسهولة الانتصار على صدام بعد الحصار الطويل، وتحقيق الأمن الكامل لإسرائيل، وإرعاب إيران، وضرب الحليف الاستراتيجي للإرهاب الإسلامي من وجهة نظرهم. ويختم وودوارد فرضيته أو معلوماته هذه بالقول إنّ ذلك كان سيشكّل الإثبات الضروريَّ لنظرية هؤلاء في الضَرَبات الاستباقية لمحق الأخطار الممكنة والمتوقَّعة.

بيد أنّ الأصولية الإسلامية السنية كانت هي التي أخذت زمام المبادرة في سياق «التملمُل العالمي» من الهيمنة الأميركية المستشرية. كان الروس الذين لعقوا جراحاتهم بعد ذهاب يلتسين ومجيء بوتين قد بدأوا باحتضان المتذمرين من الأوحدية القطبية، فحسّنوا علاقاتهم بالصين والهند وألمانيا وفرنسا، ولاطفوا كوريا الشمالية وإيران وسورية وصدّام حسين، واستعادوا مواقعهم في تحالفات وصِلات أسواق السلاح والطاقة. كما تابع البابا الراحل حملاته على السياسات العدوانية الأميركية، وبدأت ردود الفعل في أميركا اللاتينية الكاثوليكية ليس على الهيمنة فقط؛ بل وعلى هجمات الإنجيليين الأميركيين التبشيرية. وضرب الأصوليون المسلمون سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا موقعين المئات من القتلى. ثم جاءت ضربتهم الكبرى في زلزال نيويورك وواشنطن في 11/9/2001، والذي تلتْه تردداتٌ وغزواتٌ وهزّات أصغر في سائر أنحاء العالم حتى العام 2005.

في خريف العام 2002 قبلتُ دعوةً للتدريس بمركز دراسات الشرق الأوسط وكلية الحقوق بجامعة هارفرد.. مدفوعاً بالتوجس والفضول في الوقت نفسه. فقد أردْتُ الاطّلاع على الأجواء الأميركية عن كثب بعد أن حوّلت الأصولية الإسلامَ إلى مشكلةٍ عالمية. وإلى جانب كورسين في الفقه السياسي الإسلامي والفكر العربي المعاصر، درّستُ مساقاً عن الثورة الأصولية في الإسلام السنّي. وقد حظي هذا المساق بحضورٍ كثيفٍ جاء في الأكثر من غير الطلاب المنتظمين. وبعد الدرس الثالث في ذاك الكورس، جاء إليّ صديقي ديفيد بلانكنهورن، مدير معهد القيم الأميركية (وهو من المحافظين التقليديين في الحزب الجمهوري)، وأخبرني أنّ بين الحاضرين في المساق اثنان من المحافظين الجدد، وأنهما يريدان التحدث إليّ على فنجان قوة. أما أنا فقد كنتُ مهتماً بمآل التحاذُب الأميركي والعالمي على العراق، وقد اكتملت وقتَها (في نوفمبر 2002 فيما أذكر) الاستعداداتُ لغزوه كما تأكَّد الأمر فيما بعد. وأمّا هما فقد كانا مهتمين بمآلات التطور بداخل الإسلام السنّي. بدأ الأولُ الحديث عن الأُصولية المتطرفة باعتبارها جزءًا من الطبيعة الأصولية للإسلام حسبما يقول برنارد لويس وبعض تلامذته. وقلت إنّ هذا لا يصحُّ لأنّ الأمة مصدر السلطات في الإسلام الكلاسيكي، وليس النصّ الديني. وعندما طال الجدال بيننا تدخَّل الثاني وهو صحفيٌّ فقال: لنتجاوزْ هذه المماحكة، هناك تيار أصولي قوي في الإسلامي السني اليومَ، وقد حظي بجاذبيةٍ شعبيةٍ كبيرةٍ بحيث استطاع «خطف» الإسلام، فما هي إمكانياتُ «الجماعة» أو الـ Main Stream إذا كان ذلك ما يزال موجوداً بحسب رأيك، لاستعادة الإسلام ممن خطفوه؟! وأجبت بأنّ الأصولية هي انشقاقٌ بداخل الإسلام، وقد اشتدَّ عودُها بسبب السياقات الإسلامية والعالمية الملائمة لاندلاع هذا الثوران، ولولا تلك السياقات لبقي هذا الانشقاقُ مشكلةً إسلاميةً أو سنية، كما كان عليه الأمر خلال السنوات الخمسين الماضية. ونفد صبر الأول من جديد فقاطعني قائلاً: طيب يا سيّد، لندعْ هذا الخطَّ في النقاش أيضاً وأسألُك: ألستُم أكثرية المسلمين؟ قلتُ: نعم نحن السنة نشكّل حوالي الـ 85% من المسلمين البالغ عددهم مليارا ومائتي مليون! فسارع للقول: الأكثرية دائماً ضد الاستعمار والهيمنة، وأنتم تعتبروننا مستعمرين وإمبرياليين، ولذلك فستظلُّون ضدَّنا سواءٌ أكنتم أصوليين أم غير أصوليين. وهنا فاجأني الصحفي بالقول: أمّا الشيعة فهم أقليةٌ داخل الإسلام، وقد كانوا معارضين في أكثر فترات تاريخهم القديم والحديث، ولذلك فهم أقرب للديمقراطية وأقرب إلينا في العراق وغير العراق! وحاوْلتُ بين ضحكاتهم الصاخبة التي شاركهم فيها صديقي بلانكنهورن باعتبار أنهم هزموني ـ الاحتجاج على هذا الاستنتاج الأخير بالقول إنّ الثورة الإسلامية في إيران هي التي بدأت التمرد على السياسات الأميركية أواخرَ السبعينات من القرن الماضي، ومن السذاجة النظر إلى الأمور بهذا التعميم، ولا فرق بين السني والشيعي في استنكار سياساتكم بمنطقتنا. لكنّ الرجلين قاما وودّعا وتركا المقهى، وقال لي بلانكنهورن الذي بقي جالساً: أشعر للأسف أنّ أميركا ستغزو العراق رغم معارضة العالم كلّه لهذا الأمر!

غزت أميركا العراق بالفعل في ربيع العام 2003 وسط استنكار العالم كلّه. لكنها وهي تقومُ بترتيبات الغزو، هادنت إيران، واتفقت مع المعارضتين الكردية والشيعية (التي كانت متمركزةً فيها). وتسارع الأصوليون الإسلاميون السنة زرافاتٍ ووحداناً إلى العراق لمقارعة الأميركيين الغُزاة إلى جانب أنصار نظام صدَّام، كما سبق أن فعلوا في أفغانستان وفي البوسنة والشيشان، وكما يحاولون أن يفعلوا الآن في الصومال. وما تأخر الأمر طويلاً. ففي أواسط العام 2005 اتّضح للأميركيين ولأصدقائهم وخصومهم أنّ الغُزاة يخسرون في العراق ولا يربحون. وفي أواسط العام 2006 اتّضح لسائر الأطراف أيضاً أنّ أميركا يمكن أن تخسر في أفغانستان المدمَّرة أيضاً. واستجابت الإدارة الأميركية بسرعةٍ لهذا المتغيّر الصاعق بعكس خطابها الأصولي المعلن. فعلى مشارف ولاية بوش الثانية، بدأت بإزالة سيطرة المحافظين الجدد عن سياستها الخارجية، واتجهت لحلفائها الأوروبيين طالبةً المساعدة، واستعادت شراكتها القديمة مع روسيا، وفكّت الحصار عن الأنظمة العربية والإسلامية التي كانت تريد تغييرها من قبل بحجة عدم ديمقراطيتها وفشلها في مكافحة الإرهاب. وأفادت إيران من المهادنة الأميركية، ومن الارتباك الأميركي طوال أكثر من خمس سنوات. فقد أسقطت أميركا خصم إيران الاستراتيجي (بعد تركيا) بإسقاط الدولة العراقية، كما أزالت من قبل إزعاجات طالبان عنها. وكانت الولايات المتحدة قد سمحت لباكستان بتطوير السلاح النووي في الثمانينات لحاجتها إليها في أفغانستان، فلماذا لا تستفيدُ إيران من حاجة الولايات المتحدة لمهادنتها وفي النووي وغير النووي، وبخاصةٍ أنها أقامت خلال العقد الماضي علاقاتٍ قويةً مع روسيا والصين، واستتبعت سورية، وقوّتْ حزب الله، ومدَّت نفوذَها في المستنقع العراقي، ووقفت إلى جانب حركة حماس في فلسطين؟!

وبدأت الولاياتُ المتحدة بالضغط على إيران في الملفّ النووي حقيقةً منذ مطلع العام 2006 واستعانت عليها بأوروبا وبروسيا. وطلبت منها رسمياً التفاوضَ بشأن التهدئة في العراق. بيد أنّ إيران اشترطت للدخول في التفاوض تسليماً من جانب الولايات المتحدة بمناطق النفوذ القديمة والمستجدة، وبحقها في الطاقة النووية السلمية. وردّت الولايات المتحدة بالتصعيد النووي إلى حدّ فرض عقوباتٍ رمزية على إيران في مجلس الأمن قبل شهر وبموافقةٍ روسية وصينية. وأقبلت إيران على التصعيد من خلال حماس في فلسطين، ومن خلال حزب الله في جنوب لبنان. وردّت الولاياتُ المتحدةُ من خلال إسرائيل بحرب تموز المدمّرة على لبنان، وسدّت بذلك الجبهة بين حزب الله وإسرائيل، قاذفةً بحزب الله إلى الداخل اللبناني بانتصاراته وتوتّراته. ولستُ ادري إن كانت إيران قد حسبت حساباً لإمكان حدوث توتر سني/ شيعي نتيجة ضغوطِها في مناطق النفوذ داخل المشرق العربي وفي أفغانستان. لكنّ هذا هو ما حدث، وفي العراق ولبنان وأفغانستان، ومناطق أخرى في العالم الإسلامي. بيد أنّ الولايات المتحدة لم تَعْدَمْ الوسيلةَ لاستخدام هذا الأمر أيضاً ضد إيران. وقد نجحت في ذلك بلبنان حيث اعصوصب السنيون من حول الرئيس فؤاد السنيورة نتيجة ازدياد ضغوط حزب الله عليه وتخييم متظاهريهم حول مقرّه في رئاسة الحكومة بقلب بيروت. وكانت آخر نجاحات الأميركيين في هذا التنازع إقدامهم على تسليم الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى الفرقاء الشيعة ببغداد، والذين قاموا بإعدامه وسط تهليلات ثأرية زادت من الهوة بين السنة والشيعة حتى لدى الإسلاميين السنة الذين كانوا مع حزب الله ومع طهران حتى وقتٍ قريب. بسبب حرب حزب الله على إسرائيل. وهكذا وقعت طهران بين إرغامين شديدي الصعوبة: المغامرة باستمرار المواجهة مع الولايات المتحدة بالواسطة في العراق ولبنان وفلسطين، وإمكان اندلاع حروب مذهبية ودموية نتيجة ذلك تتحملُ هي مسؤوليتها أكثر من الولايات المتحدة ـ أو العودة للمهادنة مع الولايات المتحدة وبالتالي تهدُّد الأهداف التي وضعتها لنفسها في هذه المرحلة. إيران مكشوفة استراتيجياً الآن بعودة الشراكة بين روسيا والولايات المتحدة، وبالصمت الصيني الغريب، وبمسارعة الأوروبيين والروس للضغط على سوريةوبانزعاج العرب والأتراك من تجاهلها لمصالحهم واستقرارهم.

بيد أنّ هناك خطراً داهماً يتهدد الطرفين الأميركي والإيراني، هو خَطَر الأصولية السنية التي ازدادت هياجاً وثقةً بالنفس في الوقت نفسه. إذ إنها تستطيع الادّعاء لنفسِها كَسْرَ شوكة الأوحدية القطبية للولايات المتحدة في أفغانستان وفي العراق وفي سائر أنحاء العالم. وهذا هو مؤدَّى رسالتي أيمن الظواهري خلال شهر ديسمبر الماضي. في الرسالة الأولى توجَّه الظواهري إلى حماس وإلى إسماعيل هنية وخالد مشعل، ناعياً عليهم جميعاً الدخول في الانتخابات بفلسطين المحتلة، والمصارعة على السلطة في ظل الاحتلال، بينا المطلوب سحق الصهيونية والكفر العالمي. وفي الرسالة الثانية نبه الظواهري إلى أنّ القاعدة هي التي هزمت الولايات المتحدة( وليس إيران مَثَلاً!)؛ ولذلك يطلب من العرب والمسلمين والفلسطينيين تصفية عملائها وعملاء إسرائيل ومن بينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس!

وهل يجمع الخطر الأصولي الأميركيين والإيرانيين والعرب من جديد؟ أم تميلُ إيران لاستمرار التجاذُب كما حدث خلال العقود الماضية مع تخفيض السقف مؤقتاً بحديثٍ ذي طابع استراتيجي مع العرب والأتراك، وإظهار الحرص على الاستقرار في العراق ولبنان وفلسطين؟

فيا دارها بالخيف إنّ مزارها

قريبٌ ولكنْ دون ذلك أهوالُ

وسط هذه التطورات أعلن الرئيس بوش عن خطته الجديدة للمرحلة المقبلة في العراق. وليس في الخطة ما يجذب أحداً أو يغريه إلاّ إذا اعتبرنا الحديث عن العدالة، في توزيع عوائد الثروة النفطية، وزيادة حصة السنة في السلطة، ونزع سلاح الميليشيات، وتهديد سورية وإيران، أموراً شديدة الإغراء؛ وهي لن تتحقق على أي حال. فالمهم الآن البيئات المحيطة وليس نوايا الأميركيين أو عدد جنودهم. وهذه البيئات تحتشد فيها شتى أنواع المخاطر؛ لكنّ الأطراف الإقليمية والدولية تستطيع الالتقاء والنقاش للمرة الأولى منذ العام 2001 حين منعت الولايات المتحدة سائر الأطراف من الكلام والتصرف! فهل يأخذ العرب والإيرانيون والأتراك الأمر مأْخذ الجدّ وينظرون إلى مصالحهم بالعراق؟ وهل يصل الاهتمام العربي والأوروبي بالشأن الفلسطيني إلى مآل؟ وكيف يمكن إدخال سورية في العملية السلمية إن كانت؟