العراق: من الخطأ إلى الخطيئة

TT

كان الخطأ المميت للإدارة الأميركية الحالية في غزوها للعراق عام 2003، هو أنها أفرغت البلد من كافة مؤسساته السياسية بدون أن يكون هناك بديل جاهز ليملأ الفراغ الناتج، وحاولت بناء البلد من جديد على أساس من ديموقراطية فجة لم تراع البعد التاريخي لبعض الطوائف العراقية فهمشتها، ولا النسيج الاجتماعي العراقي الحساس والهش، والذي أفاض علي الوردي في وصفه. ومن هذا الخطأ الأولي القاتل انبثقت بقية الأخطاء لتتحول إلى خطيئة كبرى، وكانت الكارثة العراقية التي نشهد فصولها هذه الأيام. فنشوة النصر السريع وإسقاط نظام صدام حسين، دفعا الإدارة الأميركية إلى تصفية كل ما له علاقة بالنظام المنهار: فأعلنت حظراً وحرباً على البعث، فكراً وحزباً وأجهزة وأعضاء، مقلدة بذلك ما فعله الحلفاء تجاه النازية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك خطأ فادحاً، فليس كل من كان منتمياً لحزب البعث أيام النظام السالف كان بعثياً، بل هي ضرورات العيش اليومي لدى معظم المنخرطين في الحزب، بمثل ما كان معظم أعضاء الأحزاب الشيوعية في الكتلة السوفيتية المنهارة، أو المتأسلمين في أفغانستان أيام طالبان. وحلت الجيش القديم، بكل ما له من خبرة وتاريخ، لا فرق بين قادة ومقودين في هذا الجيش، على أمل أن تخلق جيشاً جديداً من الصفر، وكان ذلك الخطأ الفادح الثاني، فبدل الاستفادة من الخبرة العسكرية العراقية في تحقيق الأمن والنظام، حلت الميليشيات محل الجيش الشرعي في فرض نظامها وأمنها، في ظل عدم وجود جيش حقيقي يعتد به. ثم قامت، وهذه هي ثالثة الأثافي، بتهميش الدور السياسي للعرب السنة في العراق، على أساس أن الديموقراطية تقوم على حكم الأكثرية، وهذا صحيح نظرياً، ولكنه غير صحيح واقعياً، كما هو الحاصل تماماً في الحالة العراقية. فصحيح أن الشيعة يشكلون الأكثرية السكانية في العراق، إذا استثنينا الأكراد بوصفهم قومية مستقلة، ولكن للقضية وجوه أخرى كان على الإدارة الأميركية الالتفات إليها، قبل أن تقوم بمحاولة تطبيق الديموقراطية في بلد لتوه خارج من الشمولية، ومن تجربة تاريخية طويلة لم تعرف فيها الديموقراطية، وديموقراطية جزئية لا تتجاوز صندوق الاقتراع، إلا للحظات ومضت كالبرق ولم تلبث أن تلاشت بسرعة البرق أيضاً.

كان على الإدارة الأميركية أخذ الأبعاد التاريخية للطوائف العراقية وعلاقتها مع بعضها بعضا، قبل أن تحاول إنشاء ديموقراطية سريعة تقوم على مجرد قاعدة الأكثرية والأقلية، أو كأن البلد قد أكمل بناء مؤسساته الدستورية والمدنية، أو كأن الثقافة المدنية هي المسيرة لسلوك الفرد العراقي، وبالتالي لم تبق إلا أمور إجرائية لتكتمل الديموقراطية العراقية، كإجراء الانتخابات ونحوها. فالطائفة الشيعية العراقية مثلاً تشعر بنوع من الغبن التاريخي مورس ضدها منذ قرون وقرون، فهم الأكثرية ولكنهم لا يتمتعون بشيء من حقوق الأكثرية، ومن هنا كان على الإدارة الأميركية الالتفات إلى نقطة هامة في هذا المجال، وهي أن هذه الطائفة قد تستغل نتائج الديموقراطية الوافدة، وفي ظل تأجج المشاعر، لتصفية حسابات تاريخية بدأت بمأساة الحسين في كربلاء، ولن تنتهي بشنق صدام حسين في بغداد، وهو ما يحدث في العراق اليوم. تصفية الحسابات التاريخية هو الوصف الأدق لنهر الدماء المتدفق في عراق اليوم، فالقضية ليست قضية منافع اقتصادية بحتة يسعى إليها هذا أو ذاك من لوردات الحرب وأرباب الميليشيات، وإن كان الأمر لا يخلو من ذلك. والقضية ليست مجرد صراع على سلطة سياسية متحكمة بكل شيء، وإن كان الأمر لا يخلو من ذلك أيضاً، ولكنها فوق هذا وذاك قضية تاريخ متراكم من الإحساس بالغبن والهوان والذل، ثم جاءت ساعة تصفية الحسابات. من ناحية أخرى، فإن ارتباط معظم القيادات الشيعية العراقية بالقيادة الإيرانية، قد يحول العراق إلى منطقة نفوذ إيرانية في نهاية المطاف، في حال وصلت هذه القيادات إلى سدة الحكم في بغداد، وهذا هو ما حصل بالضبط، وما حادثة إعدام صدام حسين إلا مؤشر على ذلك، حين سلمته الحكومة للميليشيات، التي يفترض أن تكون خارج الشرعية، لتنفيذ حكم الإعدام فيه. أن يتحول العراق إلى منطقة نفوذ إيرانية مسألة لن تقبل بها دول الجوار العربية خاصة، فقد كان العراق طوال تاريخه الحد الفاصل بين المنطقة العربية والمنطقة الإيرانية، منذ الصراع الصفوي ـ العثماني وحتى الصراع الإيراني ـ العراقي، وإذا ما تحول العراق إلى منطقة نفوذ إيرانية، فإن كل الأوراق، السياسي منها والتاريخي، سوف تختلط مفرزة نتائج لا تحمد عقباها في النهاية.

من ناحية الطائفة السنية العراقية، فإن الأمور سوف تكون أكثر تعقيداً إذا ما أُخذ بمجرد قاعدة الأكثرية والأقلية، وهو أمر لم تأخذه الإدارة الأميركية في الاعتبار حين بدأت بتأسيس «العراق الجديد»، على عكس البريطانيين في الماضي حين أسسوا «العراق الحديث». فالسنة كانوا دوماً هم الحكام التاريخيين للعراق، لضرورات فرضتها وتفرضها الظروف السياسية المحيطة أكثر من كونها عوامل داخلية عراقية بحتة. فالسنة في نهاية المطاف هم الامتداد الطبيعي لعرب الجوار، وهيمنتهم على السلطة السياسية تعني ضمانة عروبة العراق، أو هذا هو منظور عرب الجوار للمسألة في الأقل. فوجود عراق سني الملامح يعني الوقوف في وجه إيران وامتدادها في المنطقة من ناحية، وطمأنة لدول الجوار بأن العراق لن يكون مجرد منفذ للسياسة الإيرانية الساعية إلى الهيمنة والنفوذ في كامل المنطقة. وعلى ذلك، وبأخذ هذا البعد التاريخي والجيوسياسي في الاعتبار، فإن سنة العراق لن يرضوا بالتهميش مهما كانت الظروف والأحوال، ولن ترضى معهم دول الجوار العربية خاصة، ولن تقنعهم قاعدة الأكثرية والأقلية، وسيكون العنف ملجأهم في النهاية، إذا كان الإصرار على التهميش هو الجواب النهائي، فأن يقال لهم إن اللعبة الديموقراطية لا ترضى بغير ذلك، فإنهم سيرفضون الديموقراطية جملة وتفصيلاً، وسيكون العنف في النهاية هو سيد الموقف في العراق إلى أمد لا يعلمه إلا الله.

إذاً، هنالك طائفتان أساسيتان كبيرتان تشكلان النسيج الاجتماعي والسياسي للعراق، وبناء على علاقتهما يعتمد أمن العراق واستقراره: شيعة وسنة، وكل منهما له حساباته الخاصة. الشيعة يريدون العدل وفق منظورهم، وتصفية حسابات تاريخية وسياسية لا يتم العدل إلا بها. والسنة يبحثون عن العدل بدورهم ووفق منظورهم، وهو عدل لا يتم دون أخذ دورهم التاريخي في العراق طوال قرون من الزمان. والحقيقة أنه لا يمكن إنكار أن للشيعة الحق في أن يكون لهم دور رئيس في عراق يشكلون هم أكثرية سكانه، كما أن للسنة الحق في أن يكون لهم دور رئيس في عراق يشكلون هم روحه التاريخية ولب هويته القومية. إذا أصر كل طرف على حقه المجرد، دون النظر إلى حق الآخرين، فإن النتيجة هي الكارثة، وهي ما يجري في العراق اليوم فعلاً، ولذلك لا بد من حل آخر يضمن حقوق كافة الأطراف، ويرضي كافة الفرقاء. الإستراتيجية الأميركية الجديدة لن تعني الكثير، ولن تقدم الحل المنشود، لا لأنها خالية المضمون تماماً، ففيها من الإيجابيات الشيء الكثير، ولكن لأنها أتت بعد فوات الأوان. كان من المفروض أن تكون الخطوط العامة لهذه الإستراتيجية (فتح الباب أمام عودة البعثيين وأفراد الجيش القديم وإعطاء دور أكبر للسنة)، هي البداية بعد الغزو مباشرة، أما وقد اختلطت الأوراق خلال السنوات الماضية، فإن الأمل ضعيف في أن يكون لها أي تأثير. فالشيعة اليوم يمتلكون ميليشيات قوية، ويسيطرون على الأجهزة الحكومية، ولهم علاقات قوية مع جار قوي على وشك امتلاك سحر الذرة، ويؤيدون الوجود الأميركي رغم تحالفهم مع الجار القوي، فما الذي يجبرهم على تقديم أي تنازل عن حق يرون أنهم حُرموا منه طويلاً؟ والسنة يشعرون أنه لم يبق لهم شيء ليخسروه، كما فقدوا ثقتهم بـ«العدالة الأميركية»، وبالتالي ينطبق عليه ذاك الشعار الذي أطلقه كارل ماركس في بيانه الشيوعي للبروليتاريا:

«يا عمال العالم اتحدوا، فليس لديكم ما تخسرونه إلا قيودكم»، ليصبح: «يا سنة العراق اتحدوا، فليس لديكم ما تخسرونه سوى قيودكم»، وبالتالي هو كل شيء أو لا شيء.

حين قام البريطانيون بتأسيس العراق الحديث من ولايات البصرة وبغداد والموصل، كانوا أكثر بعد نظر من الأميركيين، وأكثر دراية منهم، وهم ذوو الخبرة الاستعمارية والسياسية الطويلة. كانوا يعلمون أن المجتمع العراقي مجتمع فسيفسائي لا يمكن أن يتوحد إلا برمز سياسي يعلو على السياسة ويشرف عليها، ومؤسسة تكون حامية للمؤسسات الدستورية، ومحافظة على توازن المجتمع، وفي ظل هذين القطبين تقوم المؤسسات ويتفاعل المجتمع السياسي، فكان الملك وكان الجيش. وعندما تأدلج الجيش ودخل اللعبة السياسية، سقط الملك وجاءت الشمولية، فحافظت على استقرار المجتمع والدولة بالعنف والقوة المجردة، لا بالمؤسسات الدستورية الفاعلة والمحمية. ولكن الشمولية في النهاية أتت بالاحتلال، وسقوط كل شيء، فالشمولية مهما بدا أنها ناجحة في وقت من الأوقات، إلا أنها ساقطة في النهاية لا محالة، وما دروس التاريخ بقليلة. المهم في الموضوع هو أن العراق بوضعه الحالي يحتاج إلى شيئين لعودة أمنه واستقراره: سلطة مركزية لا سلطة تعلوها، تكون منظماً للحياة السياسية لا لاعباً فيها، ومؤسسة عسكرية قوية تكفل مدنية الحياة السياسية (كما في التجربة التركية)، مع وضع ضمانات بعدم تأدلج هذه المؤسسة كما كان الحال في التجربة الملكية العراقية، ومن بعد ذلك يكون تنظيم الحياة السياسية العراقية، أما قبل ذلك، فإن صراع الطوائف سيبقى هو المهيمن. تبدو الحالة العراقية اليوم عصية على الحل، ولكن لا شيء مستحيل في النهاية إذا وجد البرنامج القادر على الوصول إلى جذور المشكلة، وهو شيء لا أعتقد أن الإدارة الأميركية الحالية قادرة على فعله، طالما أنها لا زالت قصيرة النظر والنفس، ولا زالت متعلقة بأوهام أن الديموقراطية لوحدها قادرة على فعل ما لم تفعله عصا موسى وخاتم سليمان بمجرد تطبيقها، مما سيجعل العنف سيداً للأحكام في العراق لأوقات طويلة قادمة.. وسلامتكم.