المدعو برلمان العراق: حين يستوي حضور النواب وغيابهم

TT

في فيتنام كانت المقاومة تفكك المدارس قبل وقت الغارات الامريكية ثم تعيد بناءها يومياً بعد انتهاء الغارات، و«مقاومتنا» تهدد الأطفال بالموت إذا هم ذهبوا إلى مدارسهم وتدعو إلى تعطيل العام الدراسي لإغاظة الامريكان، وترسل الانتحاريين بسياراتهم المفخخة وأحزمتهم الناسفة لاستهداف طلبة الجامعات الذين لم يمتثلوا لتهديداتها بالتوقف عن الدراسة، في حين لملم طلبة الجامعة المستنصرية أشلاء سبعين من زملائهم وبقايا دفاتر محاضراتهم وكتبهم وهوياتهم ودموع عوائل ثكلى وآمال غضة منحورة، وضمدوا جرحاهم ورجعوا للدراسة.

على الجانب الآخر، ظل عمال البناء يتوافدون مع انسلال خيوط الظلام إلى تجمعاتهم بحثاً عن رزق يوم يسُدُّوا به أفواها جائعة هناك تعيش في البعد في مدن النسيان، يحملون أرواحهم على أكفهم خشية الإرهابيين الذين باتت تجمعات العمال أهدافهم السهلة والمفضلة للتقرب إلى الله بدماء من طحنتهم الحاجة والفقر.

أمانة بغداد لوحدها قتل لها إلى الآن 600 منتسب، حيث ذكر أنينها بأنه خسر ثلاثة مهندسين من اجل رصف جزرة وسطية فقط، رغم ذلك ففي كل الصباحات يظل عمال التنظيف والخدمات يعملون في شوارع لا يدرون في أي زاوية أو جانب طريق ترقد عبوة ناسفة تمزق أجسادهم وتذهب بأحلامهم المتواضعة.

كل هؤلاء وغيرهم تحدوا قوى الظلام والموت والهدم، فلماذا يمتنع ممثلو الشعب عن أداء واجباتهم وان يحضروا لعملهم متعللين بالظرف الأمنية، كيف سيواجهون الملايين التي تحدت الموت وانتخبتهم، ماذا سيقولون لأطفال ذلك الشرطي الذي احتضن بجسده الانتحاري المفخخ مانعاً له من الوصول إلى المركز الانتخابي لكي يحمي صناديق اقتراع وضع فيها الناس ليس خياراتهم فحسب، بل بقية دموع جفت وآمال ذوت على عتبة غد طال انتظاره.

والمصيبة تتعاظم عندما يلحظ أن هذه اللامبالاة وعدم الاكتراث وتضييع المصالح تقع في بلد يمر بأكثر لحظاته مصيرية، ويقف مستقبله عند مفترق طرق، وتشخص عند الزاوية أكثر السيناريوهات كارثية، والجدل يدور فيما إذا بلغنا أو دخلنا أو شارفنا على الحرب الأهلية، في حين تتقاذف فيه التدخلات والنفوذ الأجنبي الكرة جاعلين من بسطائه وقاء لدرء المخاطر عن أنظمة حكم في المنطقة، ولتحسين شروطها التفاوضية. والسؤال أنه وإذا كان لكل هؤلاء؛ وفي مقدمتهم ورأس رمحهم القوى الظلامية التي ابتليَّ بها العراق، والذين لا يجمعهم جامع إلا مشترك نحر تجربته الديمقراطية، عبر تقويض دولته وتمزيق مجتمعه أسبابهم، فهل من المنطق أن يساعدهم في ذلك ممثلو الشعب عبر شل هذه الديمقراطية.

اللافت أن مشكلة بعض النواب تظل في الحالتين واحدة، إن غابوا وان حضروا، لأنهم نواب تأزيم إن حضروا، ونواب تعطيل إن غابوا، فيصبح من الصعب والعسير الدفاع عن الطبقة السياسية، وفي مقدمتها البرلمان عندما يهمل مهامه الأساسية في ممارسة سلطة تشريع القوانين وإصدار اللوائح ومراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها، ومنح الثقة للوزارة أو حجبها، وحق مناقشة واستجواب الوزراء، وطلب بيانات عن أعمال الحكومة ومحاسبتها، وإيجاد كما في بعض البرلمانات وزارة ظل تشكلها المعارضة موازية للوزارات الرسمية وتضع السياسات والخطط والبرامج الموازية، فينشغل بدلاً عن ذلك في المناكفات السياسية والإعاقة ولا يتورع بعض أعضائه عن توتير الأجواء وصب الزيت على نار التوترات وإذكائها والانقياد للشارع لا قيادته. وهم هنا لا يفهمون نظرية النيابة الحديثة بأنها نيابة عن الأمة بأجمعها لا عن فئة أو مجموعة بعينها، ولا يدركون هدف الديمقراطية في بناء وطن ودولة قانون يعيش فيه الجميع وفق قاعدة المواطنة والمساواة، ويرتدون بدلاً عن ذلك إلى منهج جدهم الشاعر الجاهلي: «وما انا إلا من غزية إن غزت غزوت.. وان ترشد غزية ارشد»..

المشكلة الأخرى الأخطر التي شلت عمل البرلمان هي الغياب الكبير والمتكرر لأعضائه، إذ للآن وعلى مدى ست عشرة جلسة متوالية، فشل البرلمان في تحقيق النصاب المطلوب لانعقاده فاستعاض بحيلة قانونية بجعل آخر جلسة توافر فيها النصاب مفتوحة منذ ما يقارب الشهر والنصف، أعضاء برلمان يدفع لهم من حقوق اليتامى والأرامل والمعوزين، وعلى حساب دواء المرضى وتعليم الصغار أعلى الرواتب والمخصصات ولا يؤدون أول وأبسط واجباتهم في حضور جلسات البرلمان، مفضلين البقاء في بيوتهم وبعضهم الآخر في عواصم الجوار، متمتعين بالتألق كضيوف دائمين على الفضائيات، ولو سألت الفضائيات ضيوفها عن سجل حضورهم في برلمان يدعون عضويته، وشعب يتحدثون عن معاناته، لوجدت أن اغلب نجومها لم يحضروا أو حضروا جلستين أو ثلاثا من مجموع 59 جلسة للبرلمان، فضلاً عن 16 جلسة غير مكتملة النصاب.

فكيف يثق الناخبون بنائب حنث ابتداءه بيمين قسمه، بان يؤدي مهماته ومسؤولياته القانونية بتفان وإخلاص ويراعي مصالح شعبه، أو عندما تعطل التشريعات ولا يصدر قانون واحد مما يقارب ستين قانونا ترك الدستور للبرلمان تشريعها ولا تشكل أو يشرع قانون واحد لأي من الهيئات المستقلة التي نص على تشكيلها الدستور كمفوضية الانتخابات، والإعلام، وحقوق الإنسان، أو لمؤسسات الشهداء والسجناء أو هيئات الاستثمار وغيرها، ناهيك من العدد الكبير من القوانين التي تمس حياة المواطن، فضلاً عن المناكفات والجدل والخطب والبيانات السياسية، والاستغراق في الخصومات وغلبة الشكوك وانعدام الثقة البينية مما يعطل التشريعات ويرسل إلى ثلاجة القوى السياسية المشاريع الأخرى المختلف عليها.

لتجاوز هذه العقبة الخطيرة المعيقة لعمل الحكومة، والتي تلحق الشلل بمفاصل الدولة، والتي تأتت بجزئها الأكبر بسبب من النظام الانتخابي، الذي اعتمد طريقة القائمة، وليس الانتخاب الفردي، مما أضعف وعوم أهم ركيزة للنظام الديمقراطي، وهي المساءلة والمحاسبة، فانه لا بدّ من طرح حلول عديدة، كتجاوز قاعدة النصاب والتي لا تشترطها كثير من البرلمانات لانعقاد الجلسات. ولكن يقف عائقاً أن ذلك يتطلب تغييراً في الدستور، أو تشريع قانون استبدال الأعضاء، وتضمين التغيب بنسبة معينة كأحد أسباب الاستبدال، أو وضع جزاءات معنوية ومادية كنشر أسماء المتغيبين في وسائل الإعلام واستقطاع المخصصات المالية.

وأخيرا، وفي انتظار ذلك الإصلاح، فإننا نشعر بالخجل والعجز والأسى أمام شعب بات ضحية الإرهاب والعنف وقوى الشر الوافد منها والمقيم، متضافرة معها قوى الفساد، وسياسيون يتاجرون بمعاناته. وتبقى المصيبة الأكبر أيضا في تلك المرارة التي يعيشها شعب الصبر وهو يحس أنه أصبح ضحية إهمال ممن رفعهم وجاء بهم لرفعته فوجدوهم لا يكترثون.