المعجزة

TT

قرأت في كتاب الجوهرة للأمثال قولا لعلي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، قال: «أوصيكم بخمس لو ضربتم عليها اباط الابل لكان قليلا: لا يرجونّ احدكم إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، ولا يستحي اذا سُئل عما لا يعلم ان يقول: لا اعلم، واذا لم يعلم الشيء يتعلمه، واعلموا ان الصبر من الايمان منزلة الرأس من الجسد، فاذا قطع الرأس ذهب الجسد».

خيّل إليّ ان علاقة الفرد مع خالقه تدخل في مراحل مختلفة تتطور فيها طبيعة الاتصال، وان تلك المراحل تبدأ وتنتهي عند طرفي الحياة، اي في الطفولة وفي الشيخوخة، اي في صبح الحياة وفي غروبها.

والقاسم المشترك بين المرحلتين هو شفافية النفس قبل ان يغبرها غبار التجارب، وبعد ان يتعبها السباق الطويل فتخرج من ظلام الماديات الى نور الحياة. فنحن لا نرى الاشياء إلا بقدر ما يسمح لنا الوعي وفي نطاق تحدده قدرات الجسد وطاقاته ورغباته.

لكن الرؤية التي اتحدث عنها رؤية خاصة تتجاوز الحواس وتقرب الانسان من خالقه. ولا شك ان الايمان في الصغر لا يعكره شيء، لأن الطفل يشعر بوجود الله وكأنه يراه. أي ان اليقين بوجود الله يخلق معنا ويسبق مرحلة التعتيم الروحي التي تصاحب عنفوان الحواس وطغيان الجسد، ثم ينجلي من جديد بعد ان ترتاح النفس من الصراع الطويل.

اليقين إذن شرط من شروط الايمان الكامل. ولعل اثمن الهبات التي يقدمها والد لمولود هي ادوات الوصول الى اليقين. واليقين لا يكون إلا بأن يرضى المخلوق بطبيعة الخلق، فلا يحارب قدره ولا يبكي على شيء يفقده، ولا يزهو بخير يصيبه، لأنه يؤمن بوجود الخالق الاعظم الذي قدّر لكل شيء تقديرا. فإن أمِن شعر بطمأنينة شاملة، لأن قوة عظمى ترعاه وتترفق به.

اذا نظرنا الى الذين ينكرون وجود الله وينكرون يوم الحساب والثواب والعقاب ويجزمون بأن المرجع الوحيد للخير والشر هو الانسان، يدركهم الموت من دون ان يبلغ الواحد منهم الحالة الكونية المثلى، وهي حالة الانسجام التام بين النفس والعالم الذي يحتويها.

في طفولتي لم اكن افهم من كلام الله الكثير، لكن ذكره كان يملؤني خوفا ورهبة وحبا واملا. أذكر المرة الاولى التي حدثني فيها ابي عن ليلة القدر بأسلوب ادهشني وسحرني ومس قلبي. فقد تملكني ايحاء بأنني اوشك على اكتشاف رائع لن يدركه سواي وانني لو دعوت حقق لي الله كل ما اتمنى.

اعتقد انها كانت بداية رحلتي الى الايمان. نظرت إلى السماء والنجوم وقرأت فاتحة الكتاب التي لم أكن تعلمت سواها. ومهما مضت بي دوامة الحياة اتذكر تلك الليلة التي ما زالت تعبّر عن كياني الداخلي حين يسجد القلب خاشعا متضرعا باحثا عن الكمال، منتظرا معجزة.

منذ ايام وفي بداية العام الجديد، سألتني صديقة عن اعز امنياتي. فجأة ارتدّت إليّ ذكرى تلك الطفولة البعيدة، فغبت عن صديقتي لحظة في عالمي الخاص، ثم قلت لها: «اتمنى ان يجعلني الله وابنتي من عباده الصالحين».

ضحكت وهزت رأسها وقالت: «أكلمك بلسان الدنيا وتجيبينني بلسان الآخرة؟»، فقلت لها: «منذ زمن وانا انتظر معجزة. واكتفيت بذلك».