أي لبنان هذا الذي تعصف به الأنواء الإقليمية والدولية؟

TT

ألا يوجد بين «لاعبي السيرك» اللبناني من يشعر بأنه «أم الصبي» فيهرع إلى تخفيض سقف التحديات التي سوف تدمر الوطن.

ان كل عبارة ينطق بها كل «مسؤول» أو كل «زعيم» أو كل «سياسي» في لبنان، إن كان من الموالاة أو من المعارضة، سرعان ما ينبت لها قرون، وتحول لبنان إلى ساحة تطاحن لقرون الموالاة والمعارضة، هي لن تتحطم، انما ستحطم ارض الوطن وكيانه، ولن يكون حتى لجعجعة تطاحنها صدى، فالرياح التي تهب إقليميا ودولياً أقوى منها. ومهما قال كل طرف، انه لبناني محض، فإن اللعبة التي انخرط فيها اكبر منه، واكبر من لبنان، إلا أن هذا لا يعني أن أيا من لاعبي السيرك اللبناني، مهما شعر بكبر حجمه، هو اكبر من لبنان.

ولن يكتب اسم أي واحد منهم بحروف ناصعة، كما يحب ان يتخيل، ولن يشفع لأي منهم التحدي الذي يبديه، أو المراهنة التي يتوقع نجاحها، ولا تسّير أيا منهم النية الحسنة، إذ لا نوايا حسنة من دون ضمير وطني، وإذا وجدت مثل هذه النوايا الجوفاء، فليس بها «يتحدد» مصير وطن و«يُساق» شعب بكامله.

المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران مستمرة، وهي في سباق محموم، وإيران، كما يبدو، تريد أن تحقق انجازاً في لبنان قبل فوات الأوان داخلياً، وقبل أن تبدأ السياسة الأميركية الجديدة في العراق تفعل فعلها.

من الواضح إن إدارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش لا تريد التعاون مع إيران حول العراق، وهي اعتمدت تغييراً في سياستها في العراق يهدف إلى الحد من السيطرة الإيرانية، كما عاد الكلام يتردد عن ان النصف الاول من العام الحالي هو الوقت المناسب لعمل عسكري ضد إيران المعزولة دولياً، كما انها داخلياً منقسمة على نفسها، ويعجز الأطراف المتنافسون عن التوصل إلى توافق حول أولويات السياسة الخارجية، وكما ابلغني مصدر اميركي، فقد تم وضع خطط طوارئ اميركية لاحتلال منطقة «شاه بحر» الإيرانية لحرمان إيران من سيطرتها الاستراتيجية على مضيق هرمز.

لكن، قبل الخيار العسكري، يستمر السير في خيار التضييق الاقتصادي، وهذا سينعكس سلباً على بعض المراهنين اللبنانيين وكذلك على سوريا، من هنا حرص الأخيرة في السعي إلى سلام بينها وبين إسرائيل وبأي ثمن.

لقد انخفضت أسعار النفط في الأشهر الأخيرة بنسبة 17%، ولوحظ أن فنزويلا وإيران طلبتا اجتماعاً لمنظمة «أوبك» لكن بقية الدول الأعضاء رفضت التلبية، هذا سيضعف إيران مالياً، لأن 85% من مدخولها هو من العائدات النفطية، وهي تستورد 40% من حاجتها من الغازولين بسبب النقص في قدرتها على التكرير. وكانت لجان الخارجية والدفاع في البرلمان الإيراني أعدت تقريراً من 100 صفحة، أكد أن مقاطعة اقتصادية كاملة ستسبب قلاقل سياسية، وتهدد الاستقرار الداخلي، واستنتج بأنه في حال المقاطعة الكاملة، فإن إيران قادرة على التحمل لمدة سنة واحدة فقط. وفي مواجهة هذا الاحتمال جاء إعلان الحكومة الإيرانية بالتقنين في الوقود. وكانت بدأت مقاطعة المصارف الإيرانية، كما توقفت المصارف الأوروبية عن توفير القروض لإيران، ولأن الحذر المالي معد، فإن رغبة اليابان في استثمار 5 مليارات دولار في قطاعي النفط والغاز الإيرانيين مهددة، لأن المصارف اليابانية، تتلكأ في توفير المال. أمام هذا الحصار تريد إيران أن تحرك الأوراق التي تتحكم فيها في المنطقة، ان في العراق، أو في فلسطين، أو في لبنان. وإذا كان العراق صار قضية اميركية وإقليمية، وفلسطين قضية العرب الأولى وقضية المسلمين، فإن لبنان ليس قضية أحد، وهو النقطة الأكثر ضعفاً، وليس من حام له سوى القدر. بعد انتهاء حرب الصيف بين حزب الله وإسرائيل، شعر الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله بأن النصر العسكري، إذا لم يتوج بنصر سياسي فإنه يتحول إلى هزيمة، خصوصاً بعدما بدأ تنفيذ القرار الدولي 1701 بنجاح.

ومنذ وقف إطلاق النار تصاعد التوتر بين مختلف الأطراف السياسية في لبنان، وساعد على تأججه السباق الذي جرى من قبل سوريا وإيران، مع صدور تقرير بيكر ـ هاميلتون حول العراق، وهو التقرير الذي دعا إلى الحوار مع دمشق وطهران. لكن إدارة الرئيس بوش الابن تريد أن تترك بصماتها هي على كل قراراتها السياسية، وليس بصمات إدارة بوش الأب. وهذا أيضا ما شعرت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، فهي أيضا تريد أن تترك بصماتها على السياسة اللبنانية، رغم خروج الوزراء الشيعة من «حزب الله« و«أمل» والوزير الارثوذكسي المحسوب على رئيس الجمهورية منها بالاستقالة.

هدف المعارضة الآن إسقاط الحكومة، وإجراء انتخابات نيابية جديدة، وترى في المحكمة الدولية التي سوف تنظر في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خطة ترعاها واشنطن وتدعمها الحكومة والموالون لها، لفرض النفوذ الاميركي على لبنان، وللوصول إلى حزب الله الحليف الرئيسي لسوريا.

قد تكون المواقف من سوريا هي العامل الانقسامي الأساسي الظاهر في المعادلة السياسية اللبنانية. لكن هناك عوامل تقسيمية أخرى قد لا تكون الأكثر أهمية، ذلك أن كل طرف في لبنان يتطلع إلى مصالحه الخاصة، والوقوف مع أو الوقوف ضد سوريا هو جزء من المشكلة. فوراء هذا التوتر القاتل للبنان، هناك الصراع على السلطة.

قوى المعارضة تلعب ورقة الاعتصامات الشعبية لإطاحة حكومة السنيورة، وهذه رغم الضعف الذي اصابها باستقالة الوزراء، واغتيال الوزير بيار الجميل، يبدو أعضاؤها متحدين أكثر. الرئيس إميل لحود، اعتبرها غير شرعية، لكنه رفض اقتراحات اعتبارها مستقيلة، لما يترتب على ذلك من عواقب دستورية. حزب الله ـ رغم نفي امينه العام ـ يسيطر على المعارضة لقدرته على تحريك اتباعه بالآلاف. الحزب يريد التمسك بالسيطرة على التحركات الشعبية، لأنه يتحكم في نسبة كثافتها وزخمها. هو يريد الإبقاء على اللهجة الخطابية الحادة، إنما لا يريد الوصول إلى حد المواجهة الدموية.

في هذا يحاول حزب الله صد التهمة الملتصقة به بأنه يتجاوب مع أجندة سياسية خارجية، وهي الأجندة الإيرانية. لكن، إذا لم يكن وسيلة بيد إيران فإن ارتباطاته الكثيرة والمتشعبة والمتعددة بها تقلق اللبنانيين والدول العربية، الأمر الذي يعطي الصراع على السلطة في لبنان بعداً إقليميا. لهذا السبب تدعم الدول العربية حكومة السنيورة، فهي ترى في تحقيق حزب الله انتصارات سياسية تتجاوز المعادلات القائمة في لبنان، مثالاً آخر لتزايد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. أبعد من الاعتصامات الشعبية التي بدأت في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، هناك الهم الاقتصادي، فالدين العام يشكل حوالي 190% من إجمالي الناتج المحلي الذي سجل العام الماضي عجزاً بنسبة 5%.

ان الاقتصاد اللبناني قائم على الخدمات، وعلى حركة قطاعي المصارف والسياحة، وحرب الصيف ضربت هذين القطاعين، كما انها اثرت على الاستهلاك المحلي، وأضرت بالبنية التحتية الاقتصادية والإنتاجية في لبنان. الضرر الذي اصاب البنية التحتية بسبب الحرب كلف لبنان 3.5 مليار دولار، ثم جاءت الاعتصامات الشعبية، واحتلال وسط بيروت لتزيد من الأزمة التجارية والاستهلاكية، مما اضعف الاقتصاد أكثر وأكثر.

في ظل هذا الوضع جاء حماس الحكومة لمؤتمر «باريس ـ 3» على أساس انه يعني ثقة المجتمع الدولي، والمجموعة الاقتصادية بالقطاعين العام والخاص، لأن لبنان يحتاج إلى مساعدات اقتصادية لإنعاش اقتصاده. التحدي الاقتصادي له انعكاسات سياسية كثيرة، فإذا ظل الاقتصاد ضعيفاً فإن النقمة الشعبية ضد الحكومة ستتزايد، وهذه تصب في مصلحة حزب الله. فالمساعدات المالية التي يقدمها الحزب لأنصاره، مضمونة حتى الآن، طالما أن إيران قادرة على الدفع. لهذا فإن أي أزمة اقتصادية عامة تساعد حزب الله على التلاقي مع فئات لبنانية أخرى غير شيعية، تعاني من الضغوطات الاقتصادية، عندها يتحقق لحزب الله العمق السياسي الأبعد من مؤيديه من الطائفة الشيعية ويستطيع، إذا اضطر أن يوفر المساعدات الإنسانية لأطراف لبنانية غير شيعية، تعاني من الأزمة الاقتصادية.

ما حصد لبنان من الغزو الأميركي للعراق، ومن النفوذ الإيراني فيه، هو انقسام واضح في السياسات اللبنانية، والمواجهات السياسية، حتى لو لم تتحول إلى دموية ـ وهذا أمر غير مضمون ـ تبقى قاتلة للبنان ومستقبله. إذ أن حزب الله وحلفاءه سيستمرون في الضغط على حكومة السنيورة، بحيث تعجز عن ترجمة نجاح مؤتمر «باريس ـ 3»، فيما يعتبر عدم الاستقرار السياسي أهم عامل لتهريب كل رؤوس الأموال الأجنبية و«لقطع أرجلها». فيما يبقى هدف حزب الله تقوية دوره كممثل أول للطائفة الشيعية في لبنان. أما حلفاؤه من الطوائف الأخرى فإنهم يشاركونه بتحالف تكتيكي مرحلي، لأن «التيار العوني» اقتصادياً قريب من «تيار المستقبل»، ولأن رأس المال السني شريك في مشاريع كثيرة مع رأس المال الماروني، لكن هذا التحالف يساعد حزب الله على دحض الادعاءات بأنه يعمل فقط للشيعة، ويسمح له بالقول انه يعمل لكل الشعب اللبناني.

الخلافات المحلية اللبنانية لا تشكل نقطة في بحر الصراعات الإقليمية ـ الدولية في المنطقة. السياسيون اللبنانيون يعتقدون بأنهم الاشطر من اميركا، ومن إيران ومن سوريا ومن إسرائيل. وكل هذه الدول مجتمعة أو بمفردها، إذا دعت مصالحها ستقفز على لبنان وعلى الشعب اللبناني، ويعرف السياسيون اللبنانيون ذلك فهم صاروا معروفين بـ«سياسيين للإيجار». قديماً قيل: عند تغيير الدول احفظ رأسك. أليس هناك من سياسي لبناني واحد يتذكر هذا القول؟