تسويد وجه لبنان

TT

من يُصدِّق انه عشية حصول لبنان على جائزة دولية كبرى ممنوحة له من «مؤتمر باريس ـ 3» يقتحم «حزب الله» والاطياف التي تدور في فلكه وتتكئ على كتفه بأمل إثبات وجودها في ساحة العمل السياسي، ومعه حليفه الطارئ الجنرال ميشال عون الطامع بترئيسه للجمهورية خلفاً للجنرال الحالي اميل لحود، مناطق في العاصمة بيروت في تحرُّك كان مستغرَباً اشد الاستغراب انه يأتي من حزب نالت المواجهة التي قام بها في يوليو (تموز) الماضي ضد اسرائيل نسبة ملحوظة من الاعجاب والتقدير في الأمتين وفي بعض دول العالم. فقد أمعنت عناصر من الحزب ومن بقية الأطياف الدائرة في فلكه إحراقاً للدواليب المطاطية في الشوارع وقطعاً للطرقات واعتداءات على الناس، وشجعهم على ذلك ان قوات الجيش المأمول منها حماية الناس والممتلكات والحؤول دون قطع طرقات ذات طابع استراتيجي مثل طريق المطار الوحيد وطريق المرفأ اختارت، لاعتبار يختزنه قائد الجيش الجنرال ميشال سليمان، ان تكون على الحياد.

قد يمضي وقت طويل قبل ان يتبلسم هذا الجرح في النفوس، خصوصاً ان الصدمة الناشئة عما جرى جعلت قيادة «حزب الله» لا تطفئ بالكلام الطيب الغضب الناشئ عما حدث، كما انها لم تُقنع احداً بصوابية الذي جرى. أما الركن الآخر الجنرال ميشال عون فإنه وجد نفسه في اوساط طائفته لا يملك التوضيح الموضوعي لما فعله.

ما جرى يوم الثلاثاء 23 يناير (كانون الثاني) كان تسويداً للوجه اللبناني امام العالم. وبدل ان يغتنم الجميع مناسبة المؤتمر الباريسي لكي يؤكدوا احقيتهم في الحصول على الجائزة الدولية المليارية المقرر منحها للبنان، فإنهم انقسموا بين سلطة عنيدة ومعارضة اكثر عناداً ونتج عن ذلك مهرجان الإحراق وقطع الطرقات، الأمر الذي اضاف الى ظاهرة الاعتصام التخييمي في الوسط التجاري ندبة قد يكون من الصعب مداواتها في المدى المنظور. ومن المؤسف ان ذلك يحدث استناداً الى نفوس أمَّارة بالغيظ والثأر وجاء الانتقام عشوائياً وبين طرفين احدهما يحكم والآخر يريد أن يحل محله، ومن دون مراعاة احوال الناس ومصالحهم.

وهذا الذي حدث يجعلنا نستحضر ما فعله إخواننا اليمنيون رئيساً ومواطنين من اجل الحصول على بضعة مليارات من الدول المانحة. فقد توجَّه الرئيس علي عبد الله صالح الى لندن في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للمشاركة في المؤتمر الرابع لهذه الدول. وقبل ان يتوجه كان جدَّد الرئاسة في مناخ ديمقراطي وأشاع حالة استقرار في اليمن. ومن جانبهم فإن اليمنيين كانوا عقلاء وحرصوا على ألاَّ تضيع على بلدهم فرصة الحصول على بضعة مليارات يداوون بها وضعهم الاقتصادي المتعثر. وفي لندن طالب الرئيس علي صالح المؤتمر بأن يكون اكثر إيجابية من المؤتمر السابق الذي استضافته باريس عام 2002 ومؤتمر بروكسل عام 1997 وقبله مؤتمر لاهاي عام 1996 موضحاً أهمية وضع دراسة آلية لتنفيذ المشاريع التي سيتم تمويلها في اليمن قائلاً «اننا لا نريد فلساً واحداً الى الخزينة العامة للدولة»، واعداً بتشكيل هيئة مستقلة لتنفيذ قانون الذمة المالية وأخرى للمناقصات والمزايدات وثالثة لتنفيذ قانون مكافحة الفساد. وفي المؤتمر نفسه كان وزير المالية السعودي الدكتور ابراهيم العساف يعلن وعلى مسمع الوزراء الخليجيين المشاركين ووزير التنمية الدولية البريطاني غاريت توماس الذي افتتح المؤتمر أن الملك عبد الله بن عبد العزيز أمر بتقديم منحة المملكة العربية السعودية والبالغة مليار دولار لدعم برامج ومشاريع التنمية في اليمن. وواضح ان مثل هذا الاعلان يحفز الآخرين على ان يمنحوا بأقل قدر من المخاوف خصوصاً ان المؤتمر ينعقد وقد أنجزت اليمن ولاية رئاسية جديدة لعلي عبد الله صالح. ومع ان احتياجات اليمن لتحقيق اهداف الخطة الخمسية الثالثة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي تلبي اشتراطات التأهيل للاندماج مع اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي والمقدَّرة تكلفتها بحوالى 48 مليار دولار، لن تتحقق في مؤتمر واحد، إلاَّ أن الانضباط المسؤول والملحوظ في لغة أهل الحكم والمعارضة على حد سواء في اليمن تجعل امكانية الحصول على المطلوب على درجة من اليسر.

يوم الخميس 16 ـ 11 ـ 2006 انتهى مؤتمر لندن بإقرار دعم مالي لليمن قيمته أربعة مليارات وسبعمئة وستة وثلاثون مليون دولار قدًّمت دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من خمسين في المئة منها على شكل منح وقروض أهمها منحة الملك عبد الله بن عبد العزيز البالغة مليار دولار. وهذه الخطوة المبهرة في نظر وزير التخطيط والتعاون الدولي اليمني عبد الكريم الأرحبي واليمنيين عموماً، تشكل نقلة نوعية على طريق مرحلة الشراكة الحقيقية لليمن مع دول مجلس التعاون وتؤسس لنقلة لاحقة يتطلع اليها الشعب اليمني وهي ان تصبح اليمن النجمة السادسة في المجلس الخليجي الصامد، دون غيره من المجلسين الآخرين: مجلس التعاون العربي الذي انفرط عقده ومجلس التعاون المغاربي الذي يواصل الترنح.

وإلى ذلك إن هذا الذي حصلت عليه اليمن من شأنه جعل الرئيس علي عبد الله صالح يستقر على حال، وبحيث يصبح اكثر انسجاماً مع الموقف الخليجي. ونقول ذلك على اساس ان تحليقاته بين الهوى الايراني وواقع الحال الخليجي كانت كثيرة، كما ان مواقفه عبر الفضائيات كانت توحي بأن الرجل يريد أن ينال بالغِلاب الابتزازي ما لا يناله بسرعة من خلال التمني. ومن الجائز الافتراض بأنه بعدما حصل على اكثر مما كان يتوقع من مؤتمر لندن، وقبل ذلك من بني قومه الذين فضَّلوه على مرشح المعارضة للرئاسة، لن يبقى على التغريد الماضي وبحيث يحسب الحساب الدقيق لكل كلمة تقال وكل دولار يتم إنفاقه في معركة الاصلاح اقتصادي.

ويبقى اننا ونحن نراقب حُسن التصرف اليمني وكيف ان الشطارة هي الاخرى يمنية الى جانب الحكمة وان الدليل على هذه الشطارة ما حصلت عليه يَمَن علي عبد الله صالح من المؤتمر الرابع للمانحين، نشعر بالكثير من الأسى نحو لبنان المكبَّل بظاهرة الاعتصام وبدعة الاحتجاج الذي يستهدف تسويد وجه الوطن والغارق في مستنقع المبارزات الكلامية التي لا تحل الضائقات التي تقترب من لقمة العيش. ونستغرب كما كل عاقل في هذه الدنيا كيف أن مصير وطن وشعب هو على كف وألسنة زعامات لا ترحم وترمي بسلوكها وألفاظها الوطن في المجهول من الفوضى. كما نستغرب كيف ان لبنان الذي له في نفوس الآخرين، وبالذات قادة دول الخليج الذين تقع على همتهم وعزيمتهم ونخوتهم مسؤولية انقاذه من وهدته، حنو واهتمام وحرص ومواقف اهم بكثير من مواقفهم ومشاعرهم نحو اليمن، يعيش مأساة لا مثيل لها سببها تلك الزعامات التي كانت، لولا الرفق العربي والدولي بالحال، ستجعله يخسر فرصة من نوع الفرصة التي كسبها اليمن الذي أثبت بسلوكه انه كان الأشطر مع ان الشطارة صفة من صفات اللبناني. وفي ضوء هذه الشطارة وواقع الحال في لبنان المهدد بالفوضى وبـ«حرب التظاهرات» و«بدعة الاعتصامات» و«مهرجان الإحراق المطاطي» وقطع الطرقات تدور رحاها على أرضه ولمصلحة الآخرين ستنقلب الآية، وبحيث ان اليمن سيصبح سعيداً بالفعل، وان لبنان الأخضر والمزدهر والمتطور سيتحول الى «لبنان السعيد» بالمعنى التعيس للسعادة وكذلك بالتفسير المصري لعبارة «كان غيرك أشطر».

لا سامح الله هؤلاء الذين يُسوِّدون وجه لبنان ويتلاعبون بأقدار هذا الوطن المغلوب على أمره... وفي اعتقادهم أنهم رجال دولة ورموز تغيير نحو الأحسن.