الإخوان المسلمون: مأزق التضخم كمعارضة

TT

وفقاً لمدونة ظريفة على الإنترنت لشاب يهتم بجمع المقالات الساخرة، فإن التعريف العلمي لـ«الاستعباط» هو: «أن تكرر نفس الخطوات وأنت على يقين من أنك ستحصل على نتائج مغايرة».. هذا العبط السياسي تستخدمه بعض التيارات الفكرية في عالمنا العربي بأساليب متعددة، لمواجهة الأزمات التي تحدق بها يوماًَ بعد يوم.

ذكرني هذا التعريف بالوضع الذي آلت إليه جماعة الإخوان المسلمين، كبرى حركات الإسلام السياسي في العالم، من حيث الحكم والتأثير والأتباع وامتداد التاريخ، وبعدما يقارب الثمانين عاماً على التأسيس (1928)، كان الفوز الأكبر، الذي حققته الجماعة مطلع هذا العام، هو حصولها على أكبر نصاب برلماني يمكن أن تحظى به معارضة في تاريخ مصر، وهو ثمانية وثمانون مقعداً، مما شكل تحولا لدى كثير من المتابعين، تحولا دراماتيكيا لمستقبل مصر السياسي، بل وتحديا صارخاً لوضعية حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، التي ظلت تستلهم التجربة المصرية، باعتبار أن الجماعة الأم هي المصدر الروحي والحركي لإيقاع العلاقة مع الأنظمة القطرية، واتخاذ المواقف السياسية لأبرز القضايا الكبرى التي فرضها الواقع الجديد، ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.

تاريخياً ظلت الجماعة، منذ ظهورها مطلع القرن الفائت، أحد أهم التحديات التي واجهت وعاصرت كل الأنظمة الحاكمة في مصر، سواء في الحقبة الملكية أو الحقبة الجمهورية، منذ عبد الناصر وحتى مبارك، الذي رغم كل ما يوجه إلى سياسته من انتقادات على مستوى الشأن الداخلي، إلا أن عهده يعتبر العصر الذهبي للتعددية الدينية، التي أحدثت تحولات جذرية وعميقة في ملامح المجتمع المصري، وهي فرصة ذهبية للإخوان لو أنهم أحسنوا التصرف وغيروا من حالة تديين الخطاب السياسي. إلا أن حادثة استعراض طلاب جماعة الإخوان فنون القتال في جامعة الأزهر، التي تحدثت عنها في مقال سابق عن مأزق «الكيانات الموازية»، وضع شعار العمل السلمي للجماعة في مأزق حقيقي، ليس أمام النظام المصري فحسب، بل حتى أمام الرأي العام والنخب الثقافية، التي لا تحمل موقفاً مبدئياً من الجماعة. ومن أجل الخروج من هذا المأزق، يتم الآن تداول فكرة إنشاء «حزب سياسي مدني»، بعد أن كانت فكرة الحزب من المحظورات الإخوانية الكبرى، وكانت سبباً في طرد أبو العلا ماضي ووأد فكرته الطموحة بإنشاء حزب مدني، تحول لاحقاً بعد انفصاله إلى «حزب الوسط».. والآن محظور الأمس أصبح أمل اليوم للخروج من المأزق. لكن إشكالية تحدي الأطر السياسية القائمة لا تزال لعبة الإخوان الأثيرة، فالمرشد العام محمد مهدي عاكف يريد لهذا الحزب المدني أن يولد في رحم غير مدني، وذلك من خلال تجاوز لجنة شؤون الأحزاب، الجهة المخولة قانونياً بذلك.. فولادة عسيرة كهذه ستجعل من مستقبل طروحات هذا الحزب ومدى تطابقها مع ثوابت الجماعة مثارا للعديد من التساؤلات والتكهنات. فالعارفون بميكانيزم الجماعة يدركون أن من أبسط شروط الانتساب إلى عضويتها، المحافظة على تعاليم الإسلام بشكل عام، بل يمكن القول إن مفتاح الترقي في درجات التنظيم يعتمد على مدى التخصص في الشأن الديني والدعوي.

هذا الدمج بين الدعوي والسياسي في استراتيجية الجماعة هو مفتاح فهم حالة التخبط التي تعيشها، سواء في مسألة اندماجها في الحياة السياسية المصرية، أو حتى في اتخاذها لمواقفها من القضايا العامة.. فهي بين جنة التخلي عن الإرث المقدس والتاريخ الطويل للجماعة، الذي يعد أحد أكبر الأسباب لجذب الفتية الذين آمنوا بربهم من الجيل الفريد! وبين نار التحول إلى حزب سياسي، يخضع كغيره من الأحزاب للنقد والتقييم وبرامج واختبار الشفافية، ومراجعة الحسابات ومصادر التمويل، وآلية اختيار الكوادر. كما أن الجماعة ستمنع من جمع التبرعات والقيام بأنشطة تجارية ومالية طبقاً لقانون الأحزاب الذي يمنع كل ذلك.. وهو الأمر الذي يلح المرشد العام على رفضه باستمرار، باعتبار أن تمويل الجماعة من أسرار التنظيم التي لا يجوز الخوض فيها. التحول إلى حزب مدني أمنية لطالما تحدث عنها المتعاطفون مع الإخوان من النخب السياسية والثقافية خارج الجماعة، حتى بعض المؤسسات الغربية البحثية، التي بدأت بعد الفوز الساحق لجماعات الإسلام السياسي في كثير من البلدان العربية تغير من نظرتها المعتادة لتلك الجماعات، باعتبارها جماعات أصولية لا تؤمن بالعملية السلمية للمشاركة السياسية، بل حتى إن كثيراً من الشخصيات المحسوبة على جناح الحمائم الإخواني (عبد المنعم أبو الفتوح كمثال) تؤكد أن الجماعة تود الانتقال إلى الطور المدني، لكن المتابع لمجمل تصريحات قادة الجماعة وتبريراتهم لبعض الممارسات والمواقف (حادثة استعراض الميليشيات كمثال)، التي لا تزال مصدر قلق العديد من النخب السياسية المرتابة والمشككة من أي تحولات إخوانية، يمكنه أن يؤكد أن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن انتقال الجماعة من العهد المكي إلى المدني وفقاً للتعبيرات الإسلاموية لحالة الانتقال من (السرانية) السياسية إلى العمل السياسي في الهواء الطلق!

لكنها أمنيات تصطدم بتصريحات ومواقف صلبة من قيادات الإخوان كلما شعروا بأن الجماعة ربما تفقد الركائز الأساسية التي قامت عليها شرعية الجماعة، فالنائب الإخواني في مجلس الشعب محمد شاكر صرح بعد اجتماع لجنة الدفاع والأمن القومي، بأن «الجماعة نشأت لإقامة الخلافة الإسلامية التي أسقطها العميل أتاتورك! وستقيم الجماعة شرع الله».. في نفس السياق يتذكر المتابعون للشأن الإخواني محاولة الاندماج في العملية السياسية، التي حاول القيام بها الرئيس المصري السابق أنور السادات، حين طلب من التلمساني تغيير اسم الجماعة، لكن مصطفى مشهور رفض بشكل قاطع، حيث قال عبارته الشهيرة: «نحن نتعبد الله باسم الإخوان»..

لكن الأمر الآن يتجاوز حتى الشرعية المقدسة، التي استمات مشهور في الذود عن حياضها.. هي بالأساس من وجهة نظري وضعية التنظيم الدولي للإخوان، الذي يشكل الدعم المعنوي والمادي للجماعة الأم، في تصريحات مثيرة لعضو مكتب الإرشاد الشيخ لاشين أبو شنب قال فيها أن جماعة الإخوان لها وجود تنظيمي في أكثر من 75 دولة، وهو الأمر الذي لا تكاد تحظى به ايديولوجية دينية تاريخياً. صحيح أن هناك فروقا وتقاطعات بين مواقف التنظيمات القطرية وبين الجماعة الأم، إلا أن ثوابت الجماعة وسياساتها العريضة تظل محل إجماع واتفاق. في فترة المد الليبرالي ما قبل الثورة، رفض المؤسس حسن البنا إنشاء حزب سياسي، رغم أن الأحزاب كانت آنذاك لا تعاني من أي اشتراطات سياسية مرهقة.. واليوم لم تستطع الجماعة الانفلات من سطوة روح البنا وتعاليمه، التي لها مفعول السحر في الشخصية الإخوانية.. أعتقد أن مواقف مأزومة كهذه هي التي حدت بالمفكر الإسلامي جمال البنا شقيق المؤسس، أن يسدي نصيحته القاسية للإخوان، في مقاله «لا تلعبوا بالنار» «الغد» الأردنية 20/12/2006.. قائلا: «إن أسود يوم في حياتكم هو اليوم الذي تولون فيه الحكم، لا أريد أن أستبق الأحداث ولا أستلهم التجارب السابقة وطبائع الأشياء، فأقول إنه سيكون نهايتكم، وإن يومكم الأول سيكون يومكم الأخير»!

[email protected]