المشهد مفجع والإخراج سيِّئ.. والشهود هم الضحايا

TT

المشهد متكامل. من السذاجة تجزئته. لم يعد بالإمكان الفصل بين ما يجري في لبنان وما يجري في الضفة وغزة والعراق. الصراع واحد. المشكلة هنا وهناك متشابكة ومتطابقة. بل التسويات المقترحة متشابهة. وفي استحالة الحل، فالنهايات محتمة ومعروفة: شلال الدماء المهراق باستمرار في العراق انبثق بغزارة في الأسبوع الماضي في لبنان وغزة، منذراً بالأعظم، بالحروب الأهلية.

المجتمع العربي يتآكل. لوحة الفسيفساء التاريخية التي نفضت اليقظة العربية والنضال ضد الاستعمار عنها الغبار في القرن الماضي، تتفتت اليوم تحت مطارق الحَتِّ والتعرية الداخلية والخارجية. القمم المهيمنة جامدة موحشة ومنقسمة. لا أفكار جديدة عن الحاضر. لا ريادة واستشفاف لافاق المستقبل. معدلات النمو الاقتصادي كاذبة. كلما ارتفعت الأرقام ازدادت المجتمعات فقرا وبؤسا وتخلفا، وازداد معها التشنج والرفض!

أصيب العرب بتعب المادّة. تسييس الدين أدى الى تطييفه ومَذْهَبَتِهِ. أيقظ التطييف والتحزيب الهواجس التاريخية الغافية. راح الأموات يحكمون الأحياء. انحدر تخوف أديان الأقليات من دين الأغلبية إلى هواجس خوف متبادل داخل الدين الواحد. حيث تتعدد المذاهب، تم فرز المجتمع إلى عناصره البدائية، بكل ما فيها من حقد وكراهية وشراسة وتباعد، وبكل ما فيها من ندم ميلودرامي على ماضٍ انقضى، ورغبة جارفة في الانتقام الساذج له من أكثرية ورثته ولم تشارك في صنعه.

جَنَّبَ الاقتتال «القومي» الشارع العربي مغبة الاقتتال الشعبي. ظل الصراع على السلطة محصورا في النخبة. العصر «الجهادي» نزل بالحوار والصراع إلى الشارع. تسييس الشارع حَيَّدَ الزعماء وَسَيَّدَ الغوغاء والدهماء.

في غيبة وحدة الموقف العربي، تجتاح حُمىَّ الاستقطاب الدولي والاقليمي العرب. صدام السلطة والسياسة بين إيران والغرب يوزع العرب أشلاء على هذا الطرف أو ذاك، ويجعل وطنهم ميدانا لحروب باردة وساخنة بين الطرفين. مع إمساك أميركا بزمام المبادرة في التصدي للاختراق الايراني للعرب، يشتد الاحتكاك في مفاصل الصدام حدة وشراسة ودموية منذ بدايات العام الحالي.

أقول محذرا إن قدرة أميركا بوش على معاودة الإمساك بزمام المبادرة العسكرية في العراق غير مضمونة الاستمرار أو النجاح، بفعل تراجع نفوذ وقوة إدارة بوش داخليا وخارجيا، وبفعل حيوية المقاومة، وبفعل ضعف حكومة المالكي وتشرذم أحزابها وميليشياتها الشيعية. من هنا، فالخطر كبير على أمن واستقرار النظام العربي الذي سارع راضياً أو مضطراً إلى تأييد استراتيجية بوش الجديدة الهادفة، كما يقال، إلى إقامة حد أدنى من التوازن بين الشيعة الحاكمة في العراق والسنة المعارضة، أو غير الراغبة في القبول بـ «الأمر الواقع الشيعي» الذي فرضه الاحتلال.

بشيء من التفصيل، أشير أولاً إلى وضع «نظام السنيورة» اللبناني. تحولُ أميركا إلى الهجوم في المنطقة جعل السنيورة يحقق نصرا تكتيكيا كبيرا. عاد الرجل من باريس بطائرة مثقلة بمحافظ الشيكات السخية لإنقاذ بلد ونظام مثقل بالديون (41 مليار دولار). كان نادي باريس 3 تظاهرة سياسية أوروبية/أميركية بزعامة شيراك، للبرهنة عمليا لإيران على قدرة الغرب الواسعة على الفعل إذا ما قرر التصدي، بقدر ما كانت التظاهرة، بعد هجمة الصيف الإيرانية/الإسرائيلية، كيسا ذهبيا لتعويم «نظام السنيورة السني» وحلفائه المسيحيين المسنودين أميركياً.

أقول متعمدا: «نظام السنيورة»، وليس «حكومة السنيورة»، لأن الأزمة الوزارية الحادة تجاوزت كونها أزمة تقليدية بين حكومة ومعارضة في لبنان، لتسكن صميم الصراع في المنطقة. بات سقوط السنيورة أو بقاؤه استمرارا أو سقوطا لنظام عربي يواجه حدة الاختراق الإيراني.

نجحت إيران بإضعاف «حكومة» السنيورة داخليا، لكنها لم تنجح في إسقاط «نظامه». احتل حسن حزب الله قلب العاصمة «السني». نصب خيامه بجوار قبر الحرير. حاصر «سراي» السنيورة. غير أنه عندما حاول تصعيد التخييم إلى إضراب واعتصام يشلان البلد والنظام، جوبه نزوله بالحوار السياسي إلى الشارع الغوغائي، باحتمال نشوب حرب أهلية يخسرها لبنان، ولا تكسبها الشيعة وإيران.

شكرا لله. لن يرسل بوش 21 ألف جندي لإنقاذ السنيورة المحاصر في السراي. اكتفى بوش بملياري دولار مناصفة من خزينته ومن مصرفه «الدولي». إحساس خامنه ئي بـ «الحديد» الأميركي الحامي دفعه إلى إرسال لاريجاني إلى السعودية، البلد العربي الوحيد الذي ما زالت إيران تستطيع أن تتكلم معه بصراحة، وهي تعرف أن وزنه السياسي الكبير يمكنه من إبداء تحفظه علنا على سلوك أميركا في المنطقة، ومعارضته لأي هجوم عسكري على إيران.

من خلال الاتصالات السعودية/الإيرانية، وتصريحات خادم الحرمين عبد الله بن عبد العزيز التي أبدى فيها قلقه على العروبة والسنة، يبدو أن البلدين لم يتوصلا إلى تنسيق ما، إنما إلى تفاهم للحيلولة دون التصعيد. كَبْحُ خامنه ئي جماح نجاد ربما هو الذي سمح للسفير السعودي في لبنان باستئناف الاتصال مع نبيه بري وشريكه حسن حزب الله... لعل وعسى...

أحد أسباب التحفظ السعودي إلحاح كوندوليزا على وزراء الخارجية العرب لـ «دعم» حكومة المالكي! وهم بالكاد اجتازوا صدمة إعدام صدام في العيد، فيما كان رئيسها بوش يوجه اللوم والتوبيخ للمالكي لتلكؤه في مصالحة السنة وملاحقة ميليشيات سَنَدِهِ الصدر.

عزْمُ بوش على الحسم في بغداد لا يبدد البلبلة في موقفه إزاء الأحزاب الشيعية الحاكمة، ولا ينفي غموض علاقته مع حكومة المالكي. تردد بوش يضع العرب الذين أيدوا الاستراتيجية الأميركية الجديدة في حيرة: جهز بوش قوات «النجدة» الأميركية لتأديب «الصبي الشقي»، فإذا بالتعزيزات الأميركية تبادر إلى مشاركة المالكي في هجمتها الثالثة على سكان شارع حيفا السني، بحجة ملاحقة الإرهابيين السنة. أما الفتى الأغر مقتدى فقد نجح المالكي والسيستاني بتهريبه مع ميليشياته من بغداد الى عمق الجنوب الشيعي.

تتكاثف غيوم الغموض الأميركي مع تكثيف التهديدات الشفهية لإيران، وملاحقة عملائها المتسللين الى العراق (31 ألف عميل نشرت منظمة مجاهدي خلق المعارضة أسماءهم)، وبالحشد البحري ونشر الصواريخ المضادة للصواريخ في الخليج وأوروبا الشرقية.

عمرو موسى الذي تنبأ بفتح «أبواب الجحيم» إذا ما هاجمت أميركا عراق صدام، يعود الى التنبؤ بأبواب جهنمية أخرى، إذا ما هاجمت أميركا إيران نجاد.

المشهد الفلسطيني لا ينفصل بحال عن المشهد العراقي واللبناني. في عملية الاستقطاب بين أميركا وإيران، هناك عصفوران فلسطينيان يقتتلان وهما في قفص الاحتلال! عشرات القتلى والجرحى في غزة بالرصاص... الفلسطيني! قتال بين التسوية والرفض. أخفقت إلى الآن محاولة العرب فصل حماس عن إيران.

طهران تمول ميليشيات حماس. اسرائيل تفرج عن المال الفلسطيني لتمويل ميليشيات عباس. الأردن يحاكم متسللي حماس الذين أدخلوا الكاتيوشا الإيرانية عبر الحدود السورية. إيران وسورية سمحتا لمشعل بلقاء عباس في الشام، ولم تسمح لهما بالاتفاق على حكومة «الوحدة الوطنية».

وهكذا، فالمشهد مؤلم. الإخراج سيئ. الضحايا هم ملايين العرب. هؤلاء المتفرجون بصمت لا يستطيعون التدخل ولا يستطيعون حماية الحياة. الرصاص أعمى يقتل، سواء انطلق من بندقية الاحتلال، أو من بندقية «حماة» النضال والجهاد.

الكل أصيب بالهزال. الكل عاجز. بوش. المالكي. عباس. مشعل. هنية. أولمرت. السنيورة. حسن حزب الله... ما الحل إذن؟ الحل دولة لحماس في غزة. ودولة لفتح في الضفة. عاش الشعار: «هذه الثورة وجدت لتبقى».