الصحافي روائيا

TT

كتب رديارد كابوشنسكي بلغة لا يقرأها سوى أهل بلدها. وكان مراسلا لوكالة أنباء سقيمة هي الوكالة البولندية التي لم يكن يعمل فيها سوى المخبرين للحزب الشيوعي. لكنه رفع مستوى المراسلة الصحافية وتغطية الحدث والكتابة عن حياة الشعوب إلى أرفع مما فعل ارنست همنغواي. وكان في بحثه عن التفاصيل الإنسانية في عمق، وربما أعمق، من غراهام غرين. وعندما توفي عن 74 عاماً الأسبوع الماضي، ترك خلفه مجموعة من الكتب والمذكرات والشهادات التي تشكل لوحة عبثية ملوّنة للقرن العشرين: من ذكريات طفولته أيام الحرب العالمية الثانية والغزو النازي لبلاده، إلى عمله في أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث وضع كتابه الشهير عن هيلاسيلاسي «الإمبراطور».

كانت قواعد كابوشنسكي في المراسلة بسيطة: أولا، أن ينسى أنه صحافي ويتذكر أنه إنسان. وثانيا أن القتلى والجرحى والفقراء بشر وليسوا كلمات ولا جملا ولا فقرات. وأن المشردين بشر وليسوا أرقاماً ولا عدداً. ولذا يجب أن تصف بؤسهم بدقة. وبالإضافة إلى أنك إلى جانب الحقيقة، يجب أن تعمل من أجلها. أن تدونها. أن تثير مشاعر الناس، ليس بالكلمات الطنانة، بل بالتفاصيل. والمزيد منها. ثم تترك للناس أن تتخذ مواقفها وأن تحدد مشاعرها. فمن كانت له مشاعر فليظهرها.

كان، على قول نزار قباني، رساماً بالكلمات. ولذلك تكبد العالم أن يترجم أعماله من لغة ثانوية إلى جميع لغاته الرئيسية. وتبدو معظم رسائله من بلدان العالم، ومن عاصمته ومن قريته ومن منفاه القسري الأول في الريف أشبه بعمل روائي درامي حقيقي. وبعكس المدرسة الصحافية الأميركية التي تنزع إلى الاختصار والتقاط اللحظة العابرة والمثيرة، كان من مدرسة ترى الإثارة في الأعماق وفي اللحظة التاريخية وفي نزعات النفس البشرية، المائلة أبداً إلى سهولة القتل والتدمير وذر الخراب. قبل حوالي عقد من الزمان كتبت هنا عن مذكراته طفلا عندما أصبحت قريته بعد الحرب في الاتحاد السوفياتي. وعندما جاءت المعلمة تردد الأحرف الأبجدية. بدأتها بحرف «السين» بدل «الألف»، فاعترض متسائلا فقالت المعلمة: «هنا الأبجدية تبدأ بالسين. لأننا بلاد ستالين». وفي ذكرياته عن الحرب يروي أنه عمل يافعاً في مستشفى للمقاومة: «وبعد قليل انتقل المستشفى شرقاً إلى جبهة أخرى. وتحولت الأرض كلها هنا إلى مدفن بلا أسماء. فقط علامات». ويقول عن تلك المرحلة: «لقد صنع لي أبي حذاء من الفلين، لكن بما أنه ليس إسكافياً، فقد كان شكله سيئاً ثم ما لبث أن ضاق. وأصبحت أحلم فقط بحذاء له كعب ذو مسامير تسمع طقته على الرصيف. وكانت الأحذية اللماعة تمرّ بي دون أن تعرف بحلمي».