دعوة إلى ترشيد غضب أهل السنة

TT

أدعو إلى ترشيد الغضب الشائع هذه الايام بين أهل السنة وكبح جماحه، حتى لا يتحول من عتاب واحتجاج يدعو الى تصويب الاخطاء لتمتين وحشد صفوف الامة لمواجهة اعدائها الحقيقيين، الى فتنة كبرى وانتحار جماعي لأهل السنة والشيعة معاً.

في هذا الصدد، فالتحذير واجب من أقوال الغلاة وممارستهم، التي تتراءى لنا من فوق بعض المنابر، عبر فتاوى واتهامات تروج لها مواقع بلا حصر برزت فجأة من خلال شبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، أو عبر جرائم ترتكب على الارض تتذرع بالهوية المذهبية لإراقة دماء المسلمين الابرياء، التي هي حرام بأمر الله ورسوله.

إنني لا استطيع أن أحسن الظن بتلك اللوثة التي اصابت البعض، حتى جعلتهم لا يكفون عن التحريض والتهييج وإشعال الحريق في كل اتجاه، ذلك ان المخاطر التي تترتب على ذلك لا تخطئها عينٌ مبصرةٌ ولا عقلٌ رشيدٌ.

ولعلي لست بحاجة الى التذكير بأن الغلاة لا تعنيهم الامة في شيء، ولا يشغلهم مصيرها في أي باب، هم فقط مشغولون بمراراتهم وحساباتهم الخاصة، التي هي في الحالة التي نحن بصددها وفي الظروف التي نمر بها افضل هدية تقدم بالمجان الى كل الذين يكنون العداء للأمة ولا يتمنون لها خيرا.

ان ما نريده عتابا يريدونه هم خصومة وقطيعة، وما نريده احتجاجا يريدونه حربا تأتي على الأخضر واليابس، وما نريده اصطفافا في الاتجاه الصحيح يريدونه طلاقا وإقصاء لا يبقي على غيرهم في الساحة. وما يعزز شكنا وارتيابنا فيما يجري ان دعاة الخصومة الذين يطلقون نفير الحرب والابادة الفكرية، لم نسمع لهم صوتا ولم نر لهم حضورا في ساحات المعارك المصيرية الشريفة التي تخوضها الامة، سواء ضد الاحتلال والهيمنة الاجنبية أو ضد الجرائم التي ترتكب بحق شعوب الامة، وفي المقدمة منها الشعب الفلسطيني، فضلا عن ذلك، فقد كان مدهشا أن نرى في مقدمة المهاجمين للشيعة والمحرضين عليهم أناسا لم نعرف عنهم غيرة على السنة يوما ما. وكان مخزيا ان نقرأ في الصحف الاسرائيلية دعوات حثت حكومة تل ابيب الى استثمار الاجواء التي توافرت منذ العدوان على لبنان، لتوثيق علاقاتها وتحالفها مع ما سمتهم الحكومات «السنية المعتدلة».

ازاء ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكننا ان نوصل رسالة الغضب والاحتجاج على الممارسات الصادرة عن الطرف الشيعي، دون ان يوقعنا ذلك في منزلق يؤدي بنا الى الاصطفاف في المعسكر المعادي للشيعة والسنة معا؟

ازعم أن الإجابة عن السؤال ليست سهلة، لأن الاحتفاظ بهذا التوازن ليس مرهونا بالطرف السني وحده، ولكن للطرف الشيعي والإيراني بوجه أخص دوره في تعزيز هذا التوازن او الاخلال به. ولكي اوضح فكرتي فإنني حين أعبر عن الحرص على دور إيران الدولة كقوة ممانعة مهمة في المنطقة، تتحدى الهيمنة الامريكية والمخططات الاسرائيلية، وتدعم قوى المقاومة والممانعة في المنطقة، فان ذلك الحرص لن يحقق المراد منه إلا اذا تصرفت ايران انطلاقا من حسابات الدولة وليس حسابات الطائفة، والتداخل في هذه الحسابات. كما أن تقديم الثانية منها على الاولى، من شأنه ان يثير حساسية أهل السنة ويجعل مشاحناتهم مع حسابات الطائفة تؤثر في موقفهم من الدولة، وهذا هو الحاصل الآن، لأن الممارسات الشيعية التي ازعجت اهل السنة واثارت غضبهم، كان لها تأثيرها السلبي على موقف الجماهير العربية والمسلمة في ايران ايضا، خصوصا بعد الطريقة المهينة التي اعدم بها الرئيس السابق صدام حسين صبيحة عيد الاضحى، والتي رحبت بها ايران، وشاءت المقادير ان يتحقق انصراف الجماهير عن تأييد ايران في وقت التهديد بالعدوان الامريكي عليها، الذي تحتاج فيه طهران الى مؤازرة الشارع العربي والاسلامي. ورغم ان اهم علماء اهل السنة، وفي المقدمة منهم الشيخ يوسف القرضاوي، ما برحوا يصرحون من فوق المنابر المختلفة بأن الجماهير العربية والإسلامية ينبغي ان تقف في صف إيران إذا ما تعرضت للعدوان، إلا ان هذه الدعوة لا تمحو بسهولة آثار الغضب الذي يستشعره أهل السنة إزاء ما يتعرض له اخوانهم في العراق.

خارج هذه الدائرة، يتعين أن يكون واضحا للجميع ان الشيعة جزء من العالم الاسلامي (حوالي 15%)، وانهم عاشوا طوال تاريخهم في كنف أهل السنة، وأية مشكلات حدثت بين الطرفين في الماضي لم تكن تختلف كثيرا عن المشكلات التي تحدث داخل الاسرة الواحدة. في حين ظل الأمل هو تعايش الجميع داخل النسيج المجتمعي الواحد، الذي اتخذ صورا عدة من قبيل التزاوج والتناسل واستمرار المودة التي عبرت عن نفسها من خلال التفاعل المشترك في مختلف المحافظات والمواقع وهو ما يسوغ لي ان اقول إن قدرنا ان نعيش معا، فلماذا نحيل هذه الحياة جحيما، ولا نقيمها على اساس من المحبة والبر.

إذا قال قائل إن غضب أهل السنة هو رد فعل لممارسات الجماعات الشيعية، أو قال رموز الشيعة ان ما تفعله جماهيرهم هو رد فعل لما يعانونه من غلاة أهل السنة، فردي على ذلك ان عقلاء الجانبين يجب ان يتحركوا ويرفعوا أصواتهم، بحيث لا يتركون الفعل للغلاة، الامر الذي يوقع الجماهير العادية في إطار رد الفعل، ولابد ان يقود العقلاء سواء كانوا مراجع او سياسيين حملة ما وصفته بترشيد الغضب، بحيث يظل في حدود العتب والاحتجاج على الممارسات، بما لا يوصل الى الخصومة والقطيعة والاستسلام لفخاخ الفتنة.

ان الاعتراف بخطأ الذات ومصارحة الآخر بخطئه، من آيات الترشيد الذي ادعو اليه، ولا مفر في هذا الصدد من الاقرار بأن ادانة ممارسات الغلاة في جماعات أهل السنة كانت أعلى صوتا وأوسع نطاقا من الادانات المفترضة التي كان يفترض صدورها من مراجع الشيعة في العراق وايران.

من ناحية ثانية، فإن من الترشيد أن يوقف كل طرف استفزاز الآخر، ويحرص على الالتزام بحدود احترام مقدساته. ومن الحكمة ان توقف حملات الطعن في العقائد وان يكف المتحدثون عن استعادة صفحات التاريخ وانتقاء الروايات التي لا تخدم سوى الاثارة والتحريض والوقيعة، ذلك ان الطعن في العقائد لن يجدي، فلن يتحول بسبب منه الشيعي عن مذهبه أو السني عن معتقده، كذلك فإن استدعاء صفحات التاريخ لن يؤدي الا الى استعادة المرارات والإحن، ومن ثم الى رفع معدل الاثارة وتعميق الضغينة.

أدري أننا مختلفون ليس فقط في قراءة التعاليم، ولكن أيضا في قراءة التاريخ، وهذا الخلاف بعضه ينبغي ان تطوى صفحته، وبعضه ينبغي ألا يشغل الرأي العام به، وانما اذا كان لابد من مناقشته فالمتخصصون هم اولى الناس بذلك، بكلام آخر فإن مواضع الاتفاق وضرورة التعايش في ظل الاختلاف، هو ما ينبغي الالتزام به في الخطاب الموجه الى الرأي العام، أما بحث مواضع الاختلاف فهو شأن أهل العلم الذين يعرفون اصول الحوار وشرائط المناظرة.

من استحقاقات الترشيد ايضا ادراك ان الشيعة الإمامية ليسوا سواء، فهم في العراق مثلا غيرهم في لبنان، وموقفهم من الاميركيين خير شاهد على ذلك، بل انهم ليسوا سواء ايضا في البلد الواحد. ففي كل بلد هناك المعتدلون والمتطرفون، والملتزمون والمنفلتون، والعقلاء والسفهاء الى غير ذلك من صنوف البشر الذين نعرفهم جيدا في مجتمعات اهل السنة، وان انفردت المجتمعات الشيعية بوضع آخر لا تعرفه المجتمعات السنية، يتمثل في وجود «مراجع» لهم تأثيرهم العميق في المجتمع، ويلزم المتدينون بتقليدهم، ونفوذ أولئك المراجع لا يقل اهمية عن نفوذ رجال السياسة والادارة. وفي بعض الاحيان، فانهم يتبنون مواقف مستقلة عن سياسة الدولة، ومن ثم تحسب تلك المواقف عليهم وليس على الدولة.

بسبب من ذلك، فان الحذر واجب من اطلاق النقد والاتهام بسبب الممارسات الحاصلة على عموم الشيعة، لأن التعميم قد يكون مجافيا للواقع، على نحو يأخذ العقلاء والمعتدلين بجريرة السفهاء والمتطرفين، وقد تحاسب الدولة على مواقف وأخطاء المراجع، الأمر الذي لا يتيح لنا ان نقرأ الواقع قراءة صحيحة، والخطأ في تلك القراءة يرتب خطأ آخر في النتائج المترتبة عليها، ويصب في مجرى الفتنة التي نحذر من الاستدراج إليها.

انني اكرر نداء وجهته من قبل في هذا المكان، راجيا ألا نسلم الامر للغلاة الذين هم رعاة الفتنة وسدنتها، وان تمد الجسور بين العقلاء كي يرفعوا اصواتهم بما يجنب الامة الوقوع في مستنقع الفتنة، ولكي ينبهوا الرأي العام الى الاعداء الحقيقيين الذين يتربصون بالامة بكل أطيافها، واذا كان على عقلاء الجانبين ان يتحملوا مسؤوليتهم في هذا الصدد، فإن السياسة الايرانية تتحمل مسؤولية خاصة، لأنها بحكم الدستور دولة الشيعة الامامية، فضلا عن ان نفوذها المعنوي عليهم لا ينبغي التقليل من شأنه، رغم الحرص الذي يبديه أغلب الشيعة العرب على الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين السياسة الايرانية، وتمسكهم بأن تكون علاقاتهم بإيران الدولة والمراجع في حدود الارتباط الروحي والمعنوي، مع علمنا أن بين هؤلاء الشيعة وطنيين وعروبيين لهم تحفظاتهم الكثيرة على السياسة الايرانية.