لا ضربة عسكرية أمريكية لإيران!

TT

رغم كل الشواهد فإنني اختلف مع الذين يقولون إن الولايات المتحدة سوف تقوم بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية بهدف القضاء على قدراتها النووية، ومنعها من الوصول إلى مرحلة التسلح النووي. والحقيقة أن من يقولون بذلك لديهم عدد من الأدلة ذات الوزن يبرهنون بها على وجهة نظرهم. أولها أن الولايات المتحدة لديها رغبة دفينة في ضرب إيران، فمنذ الثورة «الإسلامية» الإيرانية فإن الولايات المتحدة اعتبرت أنها خسرت واحدة من أهم أرصدتها الكونية، فإيران تحت حكم الشاه الذي لم يكن مجرد حليف أمريكي مخلص، ولكنه كان واحدا من الأرصدة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والثروة البترولية.

وثانيها أن الثورة «الإسلامية» الإيرانية لم تأل جهدا في إهانة الولايات المتحدة خاصة عندما قامت بخطف الدبلوماسيين الأمريكيين في مطلع الثمانينيات وهي الحادثة التي مرغت سمعة الولايات المتحدة في الوحل.

وثالثها أنه بعد فترة من الهدوء النسبي في الثورة «الإسلامية» الإيرانية إبان حكم محمد خاتمي وسعيها إلى «حوار الحضارات» بدلا من صراعها، فإن إيران عادت مرة أخرى إلى صيغتها الثورية مع تولي أحمدي نجاد للحكم حيث قالت تصريحاته بإلغاء الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل من على الخريطة الدولية وأعاد التشكيك بالمحرقة النازية، وكلها تمس أعصابا حساسة في السياسة والثقافة الأمريكية وحتى الغربية.

ورابعها أن إدارة الرئيس جورج بوش كانت لديها طموحات آيديولوجية للعصف بالثورة الإيرانية، وفي كتاب الصحفي الأمريكي بوب وودوورد «حالة الإنكار» أشار إلى قصة جاي جارنر الذي كان أول حكام أمريكا على العراق بعد غزوها في مارس 2003 عندما عاد إلى واشنطن حيث أراد الرئيس جورج بوش تكريمه في البيت الأبيض. وفي نهاية اللقاء سأله عما إذا كان يريد الذهاب إلى طهران في المرة القادمة، وكان رد جارنر أنه يفضل الذهاب إلى كوبا! ورغم أنه يمكن حساب القصة على سبيل المزاح إلا أنها تظل عاكسة لأحلام وطموحات ورؤى.

وخامسها أن الولايات المتحدة فشلت ـ حتى الآن على الأقل ـ في عملية غزوها للعراق، وهي تحمل إيران جزءا من المسؤولية عن الفوضى والعنف والفتنة السارية في بغداد. فإيران من ناحية احتفظت بجسور مالية وتسليحية مع كافة القوى العراقية بما فيها «المقاومة» السنية، كما أنها بصفة خاصة ظلت سندا تسليحيا وماليا وسياسيا للقوى الشيعية المختلفة ـ جيش بدر ومليشيا المهدي ـ ومن ثم أدت إلى تصلبها في المفاوضات مع القوى السياسية والطائفية الأخرى في العراق ومشاركتها في أعمال العنف والانتقام المتبادل.

وسادسها أن هناك خوفا أمريكيا حقيقيا معززا بخوف غربي عام من أن تختلط الثورة الإيرانية بالسلاح النووي، وهذه المرة فإن الولايات المتحدة تشعر بأن لها صحبة قوية من الدول الإقليمية ودول العالم الكبرى القلقة من الحالة الإيرانية في وقت أصبحت فيه أشكال مختلفة من الأصولية الإسلامية ـ السنية والشيعية ـ تبدو كما لو كانت مصدرا رئيسيا لتهديد النظام الدولي.

وسابعها أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد باتوا يعتقدون أن إيران أصبحت واحدا من الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال تعزيز القوى الأصولية مثل حماس في فلسطين، التي شلت قدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على السير في طريق التسوية، وحزب الله في لبنان الذي شن حربا بالإنابة عن إيران مع إسرائيل، كما أنه يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في الدولة اللبنانية إلى ما كانت عليه قبل الانسحاب السوري من لبنان، الذي اعتبرته واشنطن واحدا من أهم منجزاتها الإستراتيجية في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة.

وثامنها أن عددا من المصادر العسكرية الأمريكية قد بدأت بالفعل في الترويج لإمكانية حل المسألة الإيرانية النووية من خلال ضربات جوية «جراحية» على الطريقة التي قامت بها إسرائيل مع المفاعل النووي العراقي عام 1981 بحيث يتم شل كل قدرات إيران النووية. وفي الأسبوع الماضي تردد الحديث عن خطط تفصيلية ليس فقط لضرب المنشآت النووية الإيرانية وإنما تمهيد الطريق لها بتدمير كل القدرات العسكرية الإيرانية سواء ما تعلق منها بالدفاع الجوي أو السلاح الجوي أو كل ما له علاقة بالمنشآت الذرية أو يفتح الطريق لها.

وتاسعها أن الحديث عن هجمات أمريكية «جراحية» على إيران قد صاحبه حركة لحاملات الطائرات الأمريكية إلى مناطق قريبة من إيران بحيث تصير كل الأهداف الإيرانية جزءا من مرمى حركتها العسكرية. وصاحب ذلك تعزيز القوات الأمريكية في منطقة الخليج وفي العراق تحديدا.

وعاشرها أن الإدارة الأمريكية رفضت بازدراء توصيات لجنة بيكر ـ هاملتون التي قالت بضرورة الحوار مع إيران، واعتبرت ذلك نوعا من اللغو الدبلوماسي الذي لا يصلح في التعامل مع دولة ثورية مصممة على تحقيق أهدافها الطموحة في السيطرة على منطقة الخليج من ناحية، وقيادة العالم الإسلامي على أسس ثورية من ناحية أخرى.

كل هذه الأسباب العشرة تقول بأن الولايات المتحدة سوف توجه ضربة عسكرية لإيران خلال الفترة المقبلة لأسباب تاريخية تتعلق بها، ولأسباب إستراتيجية خاصة بالشرق الأوسط، وأسباب تكتيكية تخص وضعها في العراق. ومع ذلك فإن الحسابات المنطقية تقول إن الولايات المتحدة لن تفعل ذلك ليس لنقص في الدوافع، أو قلة في الأهداف، وإنما لأنه لا يوجد لديها قدرات كافية للقيام بهذه المهمة. وفي بلد مثل الولايات المتحدة فإنها لا تستطيع أولا القيام بعملية كبيرة للتدخل العسكري التي نتحدث عنها دون تأييد شعبي كبير وهو التأييد غير المتوافر لا في الكونجرس بمجلسيه أو الرأي العام الذي أصبح لا يعطي من التأييد إلا أقل القليل للإدارة الأمريكية الحالية.

وثانيا أن كل الخبراء العسكريين في الولايات المتحدة يعلمون أن فكرة الضربة الجوية «الجراحية» لا وجود لها في الواقع العملياتي العسكري إلا في خيال المراهقين من الخبراء، فالقوات الجوية لا تستطيع حسم معركة بهذا الاتساع ما لم تؤيدها في النهاية قوات برية كافية، بل أن هناك خطرا كبيرا في حالة الضربة الجوية أن يؤدي ذلك إلى تسريع إيران لعملية إنتاج السلاح النووي فتكون النتيجة عكسية تماما لما تريده الولايات المتحدة. وفي الحقيقة فإن الضربة الجوية الإسرائيلية للمفاعل النووي العراقي لم تؤد إلى القضاء على البرنامج النووي بل أدت إلى استئنافه بوسائل أخرى. وعندما انتهت حرب تحرير الكويت ثبت أن صدام حسين كان أقرب إلى إنتاج السلاح النووي مما كان عليه عام 1981.

وثالثا أنه يوجد لدى إيران أوراق كثيرة للرد على الهجوم الأمريكي، فهي ليست دولة لها عمق استراتيجي كبير، ولكن لديها القدرة على مد أذرعها العسكرية والثورية إلى آبار النفط في الخليج كله، كما أن لها القدرة على تكبيد الولايات المتحدة خسائر فادحة في العراق نفسه إذا ما انقلب حلفاء إيران من الشيعة على أصدقائهم الأمريكيين.

ورابعا انه لا يوجد لدى الولايات المتحدة هدف الآن قدر تحقيق نوع من النجاح النسبي في العراق يحقق فيها الاستقرار ومعها الشرق الأوسط ويسمح لها بالانسحاب المشرف، ومن أجل ذلك لن يوجد هدف آخر إلا ذلك الذي يخدم الهدف الاستراتيجي، وبالتأكيد فإن ضرب إيران لا يخدم هذا الهدف بل انه سوف يعمق المعركة الأمريكية في العراق والمنطقة لسنوات قادمة.