الرفق بالأوطان.. بالإنسان

TT

كلما تحاول أن تقول جديدا تصيبك حالة من الدوار..! الكلام الجديد يحتاج إلى حياة تتجدد..! ولكن المنظر ممل كحبات مسبحة قديمة..! وعلينا أن نمارس التكرار الممل على أمل أن نتلمس طريقا يحرك الراكد في بحيرة حياتنا..! ويغسل شيئا من الصدأ المتراكم فوق أرواحنا..! ويعطينا القوة كي نستمر في تحريض الناس على الحياة حتى لا نصاب وتصاب أوطاننا بالشيخوخة المبكرة..!

أوطاننا بحاجة إلى الرفق مثلما هي بحاجة إلى الإصلاح..! العاشق والمحب والخائف على أحبته يترفق بهم..! الكارهون فقط يمارسون تعذيب من يعشقون..! ومخطئ من يعتقد أن إصلاح الأوضاع يمكن أن يتم عبر الكلمة الجارحة المتوحشة التي تؤذي ولا تصلح، أو عبر رش الملح على الجروح المكشوفة بدلا من تطهير هذه الجروح بهدف شفائها..! الأوطان لا تصلح بحفلة جلد الذات والبكاء على اللبن المسكوب..! لا يمكن لفرد فاسد أن يصلح بيته..! ولا يمكن لبيوت فاسدة متراصة أن تصنع مدينة جميلة، ولا يمكن لأوطان خربة هرمة تمت سرقتها ونهبها بفعل فاعل أن تصنع أمة متحضرة..!

المواطن الذي يشتم الحكومة وهو يهمل إصلاح بيته يستحق مثل هذه الحكومة ؟ الحكومات الفاسدة التي تشتم الصهيونية والامبريالية بدل إصلاح أوضاعها هي حالات مستعصية تجد في إلقاء اللوم على الآخرين فرصة لتبرئة نفسها من تهمة الفساد والإفساد مع سبق الإصرار والترصد..!

نحتاج إلى إصلاح أوطاننا من دون أن نؤذي هذه الأوطان..! مطلوب أن نجتث الدمامل المتراكمة فوق وجه الوطن بدون أن نريق دمه المحرم علينا جميعا..!

هناك أقلية من اللصوص وقطاع الطرق، هذا صحيح..! ولكن الصحيح أيضا أن هناك ملايين من الشرفاء..! وأن هناك مرتشين وملوثين ولكن هناك ملايين ممن يأكلون لقمتهم بالحلال، يعرفون حق المعرفة أن من يبيع ضميره باع وطنه وان الإنسان يستطيع أن يعيش بصمامات يركبها الأطباء في قلبه..! يمكن أن يعيش بنصف رئة.. لكنه لا يستطيع أن يعيش بنصف ضمير..!

الأوطان لا تبنى بإلغاء حقوق الآخرين وحريتهم في التفكير بشكل مختلف، وممارسه عقائدهم بشكل مختلف..! الأوطان لا تبنى بالسيارات المفخخة والقتل على الهوية، وتحريض الناس على الكراهية، ولا بالإطارات المحترقة التي تسد الطرق، ولا بالاستقواء بالأجنبي ضد أبناء العمومة، ولا بتحريك العامة والغوغاء وتحريضهم ضد مصالحهم وضد أبناء وطنهم..! ولا بتعطيل مصالح الناس من اجل تحقيق مصالح صغيرة..!

الأوطان لا تبنى بالخطب الحماسية بل بالخطط الخماسية..! ولا تبنى بالبحث عن متآمرين خارج الحدود، بل بالنظر في مرآة ذواتنا والاعتراف بأننا نتحمل هذه الخطايا والأوزار ونصرخ بوجه أنفسنا «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر..»!

العالم المتحضر مشغول بالجامعات والمختبرات، يخترع الأجهزة والأدوية ويمارس الرياضة، ويزرع، ويصغى ويبدع. ونحن مشغولون بالتفتيش في كتب التاريخ القديمة كالتاجر المفلس، والحديث في الطوائف والأعراق وعصبيات الجاهلية الأولى..!

الناس تبني المؤسسات وتلجأ إلى صناديق الانتخاب والى المحاكم، بينما نتفنن في تدمير ذواتنا، معتقدين أن القوة وفرض الرأي يمكن أن يصنعا حضارة، ومعتقدين أن ارتفاع الصوت يعني قوة الحجة..!

المنظر مكرر كحبات مسبحة قديمة، لكن لا طريق سوى النهوض وتحريض الناس على الحياة، واستنهاض الهمم والعودة إلى العقل، فلا عاصم اليوم من الطوفان سوى العقل الذي هو هبة الله الكبرى للإنسان..!